مروية سبق الكتاب: فقه عميق لا دعوى جبر
ورد في البخاري عن النبي ﷺ أنه
قال:
"فإن الرجل ليعمل بعمل
أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل
الجنة، فيدخل الجنة. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا
ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار."
وقد أساء كثير من الناس
فقه هذه المروية، فحسبوها دليلًا على الجبر، واستندوا إليها ليثبتوا أن الإنسان
مسلوب الإرادة، وأن مصيره مكتوب عليه سابقًا، فلا ينفعه عمل ولا تضره معصية، وهو
فهم باطل يخالف النصوص الصريحة المحكمة في الكتاب العزيز، ويخالف منظومات الأسماء
والسمات الإلهية، ويهدم ميزان العدالة والاختيار الذي هو أصل الابتلاء الإنساني،
ويخالف الطبيعة والفطرية الإنسانية.
إن المروية، على
التحقيق، تشير إلى كمال العلم والتقدير الإلهي، لا إلى نفي إرادة الإنسان أو
اختياره، بل تحذر من الاغترار بظاهر الأعمال، وتلفت الأنظار إلى تقلب القلوب، وخطر
النفاق، وسوء الخاتمة، كما تنبه إلى رجاء التوبة، وحسن الختام، وسعة الرحمة
الإلهية.
فمن يعمل بعمل أهل
الجنة في الظاهر، قد يكون في باطنه من النفاق أو الكبر أو الشرك ما يرده، وإذا دنا
أجله، ظهرت حقيقته، وسبق عليه ما كان خافيًا في باطنه، فكان مصيره إلى النار. ومن
يعمل بعمل أهل النار، قد يكون في قلبه بقية من خير، وحرقة من ندم، وإذا أراد الله
به خيرًا، تاب وأناب، فسبق له من الله لطف ورحمة، فكان من أهل الجنة.
ولذلك، فالمروية:
تحذِّر الناس من الانخداع بمن يعمل
بعمل أهل الجنة في الظاهر، فقد يكون مرائيًا أو منافقًا، أو صاحب رياء لا حقيقة له.
وتنهى عن ازدراء من يعمل بعمل أهل
النار، فقد يكون ممن قُدر له التوبة والإنابة آخر العمر، فيمحو الله ذنوبه،
ويبدلها حسنات.
وتدعو الإنسان نفسه إلى التواضع
والخشية، وألا يغتر بعمله، فقد يُستدرج، ويُختم له بخاتمة السوء.
وتبث في النفوس الرجاء، وألا يقنط أحد
من رحمة الله، فمهما أسرف العبد على نفسه، فباب التوبة مفتوح، ما لم يغرغر.
وهي بذلك تُقوِّض من
الأساس كل دعاوى من نصَّبوا أنفسهم قضاة على ضمائر الناس، وأقاموا محاكم تفتيش على
الإيمان والكفر، فكأنهم يطَّلعون على الكتاب الذي عند الله، ويعلمون ما خُتم للناس
به من مصائر!
فقد يُحسن أحدهم الظن
بنفسه، ويُسيء الظن بغيره، ثم يُفاجأ يوم القيامة بأن من كان يزدرِيه في الدنيا قد
سبقه إلى الجنة، وأنه نفسه ممن ضلّ سواء السبيل! لذلك لا يحق لأحد أن يسلب غيره
فرصة الهداية ما دام حيًّا، ولا أن يُغلق في وجهه باب التوبة.
وفي اليوم الآخر تنكشف
الحقائق، وتُجزى كل نفس بما كسبت، ويبوء بالخزي كل من زعم لنفسه ما هو لربه، وافترى
على الناس، وحكم على ضمائرهم، واغترّ بعمله، أو زعم لنفسه العصمة.
فإذا قذفك أحدهم
بالكفر، فقل له بهدوء:
"هل تضمن أنت أن تموت
على الإيمان؟"
فإن قال: نعم، فقد
تعدّى على مقام ىبه، وزعم لنفسه علمًا بالغيب، وهو من القوم الخاسرين الذين
أَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ.
وإن قال: لا، فقد بطل
حكمه عليك، وعاد الكلام إليه، ووجب عليه أن يخشى سوء المصير، كما يخشاه كل مؤمن
صادق.
*******
سَبْقُ الْكِتَابِ
رَجُلٌ
يمشي
في نورِ الصلاةِ،
يُسْبِغُ
وُضوءَ القلبِ
ويَطيلُ
الركعةَ،
لكنَّ
جُذورَ الشَّرِّ
تُخفيها
الأعماقْ...
قلبٌ
لم
يَعرِفْ يومًا
معنى
الإخلاصْ
ولم
يُبصِرْ
سِرَّ
النُّورِ
يُخاتِلُنا
خلف الأقنعةِ البيضاءْ
في
حانةِ ليلٍ
يَسكرُ
بالعصيانِ
ويغوصُ
بآثامٍ تَتَلوْها آثامْ...
لكنَّ
بكاءً صادقًا
هزَّ
جدارَ القلبِ
وفتحَ
للرحمنِ
طريقًا
من ندمٍ،
فأفاضَ
اللهُ عليه النُّورْ
وسَبَقَ
الكتابْ!
ما أضيقَ فَهْمَ القومِ،
إذا
ظنّوا
أنَّ
المرويةَ جَبْرٌ
وأنَّ
المصيرَ مُعَلَّقٌ
في
سُطورٍ لا تتبدَّلْ!
لكنّ
الكتابَ سَابقةُ علمٍ،
لا
سَلْبُ خيارْ
وسنَنْ،
يتغيَّرُ
فيها المآلُ إذا تغيَّرَتِ الأسرارْ
يا
مَن تَسبُّ الناسَ وتَرميهمْ
بالكفرِ،
رويدَك!
أأمنتَ
على نفسك؟
هل
تضمنُ أن تختمَ بالإيمانْ؟
أم
أنكَ تأمنُ مَكرَ اللهْ؟
وَلَا
يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ
سِوى
قومٍ خاسرِينْ...
لا
تَحكمْ
أنَّ
فلانًا في الجنّةِ
أو
في النّارْ،
ما
دامَ على دربِ التوبَةِ يمشي
أو
يتعثَّرْ،
فالهفوةُ
قد تَعصِمُ
والكبوةُ
قد تَرفَعُ
وَالرَّبُّ
هو الأعلمْ
لا
تيأسْ
إن
أظلمَ قلبُكْ
إن
غلبَتكَ الذَّنْبُ،
فكَمْ
من سكرانَ
عانقَهُ
فَجْرُ التوبةْ،
فمَحا
الآثامْ
وغَدَا
من أهلِ الجَنَّةِ
بلا
أوهامْ...
وإياكَ
إياكَ...
أن
تَغتَرَّ بعملِك الظاهرْ،
فربَّ
عملٍ يُستدرَجُ فيه القلبْ،
ويُختمُ
بالخِزيِ...
ولو
دامَ الدَّرْبُ عليه طويلاً!
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق