ابن سينا: فيلسوف الإسلام الأعظم أثرًا وباني النسق الفلسفي في الإسلام
ابن سينا هو أعظم فيلسوف محض في
تاريخ الإسلام من حيث:
- البناء
النسقي الفلسفي الكامل: ابن سينا
أنشأ منظومة فلسفية متكاملة تبدأ بالمنطق، وتنتهي بالإلهيات، وتمر بعلم
النفس، والطبيعيات، وما بعد الطبيعة.
- التطوير
المبدع للفلسفة المشائية: لم يكن
مجرد شارح لأرسطو، بل أعاد صياغة النسق الأرسطي بلغة جديدة، وطرح مفاهيم لم
تكن موجودة عند أرسطو، مثل:
أ. واجب
الوجود (الذي أثّر لاحقًا في العقيدة الإسلامية
وفي التصوف الفلسفي وفي الفكر المدرسي الأوروبي.
ب. الاتحاد
العقلي بين العاقل والمعقول.
ت. النفس
الناطقة كجوهر مستقل.
- التأثير
العابر للثقافات: أثّر في
المسلمين واليهود والمسيحيين على السواء، بل كان المرجع الرئيس للفلسفة في
أوروبا من القرن 12 إلى 17.
أما ابن رشد:
- فكان
بالفعل أعظم شارح لأرسطو في الإسلام، وبلغت شهرته في أوروبا اللاتينية
ذروتها، حتى لُقِّب بـ الشارح "" The Commentator.
- لكنه
لم يؤسّس فلسفة مستقلة، بل كان مشروعه دفاعًا عقلانيًا عن أرسطو ضد الغزالي،
ولم يخرج من الإطار الأرسطي الكلاسيكي.
- وفلسفته،
رغم عمقها، ظلت تدور حول شرح النص الأرسطي ومحاولة التوفيق بينه وبين
الشريعة، لا خلق نسق فلسفي خاص به.
إذًا، بناءً على معيار الإبداع
الفلسفي وبناء النسق الخاص:
فإن ابن سينا هو أعظم فلاسفة
الإسلام الخالصين تأثيرًا وإبداعًا.
وهو أول من يمكن اعتباره فيلسوفًا
إسلاميًا بالمعنى الدقيق للفيلسوف، لا بمعنى المسلم الذي يشتغل بالفلسفة، بل الذي
أنتج فلسفة مستقلة عن مجرد التفسير الديني أو التقليد الأرسطي.
مقدمة
يُعد ابن سينا (370–428هـ /
980–1037م) من أبرز أعلام الفلسفة الإسلامية، بل الشخصية الأكثر تأثيرًا في تشكيل
الفلسفة العقلية المشائية في العالم الإسلامي وما بعده. وقد تميز عن غيره من
المفكرين المسلمين بأنه لم يقتصر على الشرح أو الدفاع، بل أنشأ نسقًا فلسفيًا
متكاملًا يربط بين المنطق والطبيعيات والنفس والإلهيات. وقد تجاوز أثره العالم
الإسلامي، ليصبح أحد المراجع الكبرى في الفكر المدرسي اللاتيني في العصور الوسطى.
رغم ما لقيه من معارضة داخل الفكر
الإسلامي التقليدي، وعلى رأسها هجمات أبي حامد الغزالي في كتابه تهافت
الفلاسفة، فإن فلسفة ابن سينا ظلت مؤثرة في التيارات الفلسفية والعرفانية إلى
يومنا هذا، بل أصبحت معبرًا رئيسًا لانتقال الفلسفة الإغريقية إلى الفكر الأوروبي.
أولًا: خلفيات النشأة وتوجهه إلى الفلسفة
نشأ ابن سينا في أفشنة قرب بخارى
في بيئة علمية منفتحة، كان والده من الدعاة المقربين من الاتجاهات الباطنية
العقلية، ويُرجّح أنه كان متأثرًا بالفكر الإسماعيلي الفاطمي،كان لهذه النشأة
الفكرية المتسائلة والمنفتحة على الجدل العقلي أثر في توجيه اهتمامه المبكر نحو
المنطق والفلسفة وعلوم الحكمة.
وقد بدأ ابن سينا دراسته بالقرءان
والعلوم الشرعية، لكنه مال سريعًا إلى الطب والفلسفة، وقرأ نصوص أرسطو بشغف، حتى
فُتحت له مغاليق كتاب ما بعد الطبيعة بفضل شرح الفارابي، كما صرّح بذلك في
سيرته الذاتية.
ثانيًا: معالم النسق الفلسفي عند ابن سينا
الميتافيزيقا وبراهين وجود الله
جمع ابن سينا في مشروعه الفكري
بين المنهج العقلي الدقيق، والحدس الميتافيزيقي العميق، مما مكّنه من صياغة، أو
إعادة صياغة، براهين على وجود الله تجمع بين الصرامة المنطقية والثراء الفلسفي، وقد
تأثر بها كل من أتوا بعده.
براهين ابن سينا على وجود الله: تحليل وبيان لما أبدعه أو حسّنه
ورث ابن سينا الإرث اليوناني
(وخاصة الأرسطي)، لكنه لم يكن مجرّد ناقل، بل مفكّر مبدع طوّر وحسّن وأضاف، وابتكر
برهانًا جديدًا لم يسبقه إليه أحد، هو ما يُعرف اليوم باسم برهان الصدّيقين، إضافة
إلى تحسينه للبراهين الكونية التي ورثها عن سابقيه.
فيما يلي عرضٌ لأهم براهينه على
وجود الله، مع توضيح ما أبدعه منها، وما قام بتطويره وتحسينه.
برهان الصدّيقين: البرهان العقلي
الخالص
أصل التسمية:
سمّاه ابن سينا "برهان
الصدّيقين"، أي برهان أولياء الله وأهل اليقين الذين يصلون إلى معرفة الله لا
عن طريق المخلوقات، بل عن طريق التأمل في حقيقة الوجود نفسه.
مضمون البرهان:
ينطلق البرهان من تحليل الوجود
ذاته، دون النظر إلى العالم أو الحركة أو التغير، كما هو الحال في البرهان الكوني
أو الحركي.
يرى ابن سينا أن الموجودات إما:
- واجب
الوجود بذاته: أي لا
يحتاج إلى غيره لكي يوجد.
- أو
ممكن الوجود: أي يمكن أن
يوجد، ويمكن ألّا يوجد، ووجوده يحتاج إلى علّة.
ثم يُبيّن ابن سينا أن الممكن لا
يمكن أن يوجد إلا بسبب، وهذا السبب إما أن يكون ممكنًا مثله، أو واجبًا. وإذا كان
السبب ممكنًا، فهو بدوره يحتاج إلى سبب... وهكذا دواليك، مما يؤدي إلى تسلسل عللي.
لكن التسلسل لا يمكن أن يكون لا
نهائيًا؛ إذ لا يمكن لممكنات لا نهائية أن تفسّر وجودها بنفسها، فلا بد من أن
تنتهي السلسلة إلى واجب الوجود، موجود لا علّة له، وجوده من ذاته، وهو الله.
الخصائص الفلسفية:
- لا
يعتمد على الملاحظة الحسية.
- لا
يستند إلى الحركة أو التغيّر.
- دليل
ميتافيزيقي خالص من داخل مفهوم الوجود نفسه.
- يُثبت
وجود الله بوصفه واجب الوجود، لا كخالق وحسب.
أهمية البرهان:
- من
إبداع ابن سينا الخالص، ويُعدّ من أهم إسهاماته في الميتافيزيقا.
- أثّر
بعمق في اللاهوت الإسلامي والمسيحي اللاتيني (خاصة عند توما الأكويني).
- تبنّاه
لاحقًا الفلاسفة المشّاؤون، والمُتكلمون، بل وحتى بعض المتصوفة بمعانٍ رمزية.
برهان الإمكان والوجوب (تحسين
للبرهان الكوني)
رغم أن أصل هذا البرهان يعود إلى
الفلسفة اليونانية، وخاصة أرسطو، فإن ابن سينا أعاد صياغته بطريقة أكثر تماسكًا
ودقّة منطقية، وهو في الواقع الركيزة المنطقية لبرهان الصدّيقين.
الفكرة الأساسية:
- الموجودات
في العالم حادثة وممكنة الوجود.
- كل
ممكن يحتاج إلى واجب يعلّله.
- لا
يمكن أن يوجد ممكن دون علّة.
- فإما
أن نستمر في سلسلة الممكنات بلا نهاية (وهو باطل)، أو نصل إلى موجود واجب
لذاته.
- وهذا
الواجب هو الله.
الفرق عن برهان الصدّيقين:
- يبدأ
من العالم الخارجي (المخلوقات الممكنة).
- في
حين أن برهان الصدّيقين يبدأ من تحليل مفهوم الوجود نفسه.
البرهان الحركي (تحسين للبرهان
الأرسطي)
ورث ابن سينا من أرسطو برهان
"المحرّك الأول"، لكنه قام بتقويته عقليًا وإضافة توضيحات دقيقة عليه.
الفكرة:
- العالم
متغيّر ومتحرك.
- كل
حركة تحتاج إلى محرّك.
- لا
يمكن أن يكون هناك تسلسل لا نهائي من المحرّكات.
- فلا
بد من محرّك أول، غير متحرّك، يحرّك الأشياء وهو ثابت بذاته.
- وهذا
المحرّك الأول هو الله.
تطوير ابن سينا:
- ربط
بين الحركة الطبيعية والعلل الفاعلة والمعقولة.
- شدّد
على ضرورة أن يكون المحرّك الأول مجردًا غير مادي، لأنه لو كان ماديًا، لكان
متغيّرًا.
برهان العناية والنظام (تلميحات
إليه)
لم يركّز ابن سينا على برهان
العناية والنظام كما فعل المتكلمون أو الغزالي، لكن في بعض المواضع، وخاصة في
"النجاة" و"الإشارات"، أشار إلى أن انتظام الكون ودقته يشير
إلى فاعل حكيم.
لكنه يرى أن هذا البرهان يصلح للعامة
والمبتدئين، وليس للمتأملين الصدّيقين، لأنه لا يُثبت واجب الوجود من حيث هو كذلك،
بل من حيث فِعله في العالم.
خلاصة وتمييز بين البراهين:
نوع البرهان |
أصله |
هل هو من
إبداع ابن سينا؟ |
طريقته |
النتيجة |
برهان
الصدّيقين |
جديد كليًا |
نعم |
تحليل الوجود
ذاته |
إثبات واجب
الوجود |
برهان الإمكان
والوجوب |
أرسطي مشائي |
طوّره وأتقنه |
تحليل طبيعة
الممكن |
لا بد من واجب |
البرهان
الحركي |
أرسطو |
حسّنه وجرّده |
من الحركة إلى
المحرّك |
إثبات محرك
أول |
برهان العناية
والنظام |
عام تقليدي |
أشار إليه دون
تعويل |
من النظام إلى
الفاعل الحكيم |
فاعل منظم |
أثر براهين ابن سينا:
- فتحت
الطريق أمام نقل الفلسفة الإسلامية إلى أوروبا، خاصة عبر ابن رشد، ومنه إلى
توما الأكويني.
- أثّرت
في بناء التصور الفلسفي لله عند الفلاسفة المتكلمين.
- ساعدت
في فصل اللاهوت عن الفلكيات، حيث أثبتت وجود الله دون الحاجة إلى فرض أفلاك
أو سماوات.
وباختصار، تميّز ابن سينا بتقديم
برهان خاص على وجود الله أصبح لاحقًا حجر الزاوية في الميتافيزيقا العقلية
الإسلامية والمسيحية، وهو ما يُعرف في الفلسفة الغربية بـ برهان واجب الوجود
(Proof of the Necessary Existent). يقوم هذا البرهان على التمييز
بين:
- ممكن
الوجود: ما لا يجب
وجوده لذاته، بل يحتاج إلى علة خارجية.
- واجب
الوجود: ما يستحيل
في العقل عدم وجوده، ووجوده من ذاته لا من غيره.
وقد بنى هذا البرهان على مبدأ
السببية، مؤكّدًا أن سلسلة الموجودات الممكنة لا يمكن أن تتسلسل إلى ما لا نهاية،
فلا بد من موجود أول غير ممكن ولا معلول، وهو واجب الوجود، أي الله.
وهذا البرهان عقلاني صرف، لا
يعتمد على النقل أو التجربة، بل على التحليل المفهومي لمفهوم الوجود.
نقد براهين ابن سينا
أولًا: الغزالي وبراهين ابن سينا
– بين الرفض المنهجي والقبول المضموني
المنطلق المعرفي
ينطلق الغزالي في "تهافت
الفلاسفة" من موقف نقدي جذري تجاه الفلاسفة، وعلى رأسهم ابن سينا، معتبرًا أن
مَنطقهم، وإن بدا عقليًّا، مؤسَّس على مقدمات ميتافيزيقية لا برهان عليها، خصوصًا
في الإلهيات.
نقده لبراهينهم
- الغزالي
لا يرفض إثبات وجود الله، بل يرفض طريقة الفلاسفة في إثباته، لأنها – في نظره
– لا تُفضي إلى إله يستحق العبادة، بل إلى مُجرّد علة أولى فاقدة للإرادة
والعلم التفصيلي، والنقد فيه تعسف، فلكل برهان حدوده، وهو يجب أن يكون كافيا
في مجاله فقط.
- في
"التهافت"، يقول بوضوح إن الإله الذي تثبته الفلاسفة هو "علّة
وجود"، لا "إله ديانة"، ولا يمكن بناء التكاليف والبعث
والثواب والعقاب على هذا التصور، وهذا أمرٌ بديهي لا يقلل من شأن البرهان،
ولا ينقضه.
موقفه من برهان الصدّيقين
- لم
يُصرّح الغزالي بلفظ "برهان الصدّيقين"، لكنه أشار إلى نقده
الجوهري له حين ناقش فكرة واجب الوجود.
- رأى
أن الفلاسفة – ومنهم ابن سينا – وقعوا في دائرة مغلقة حين افترضوا أن واجب
الوجود لا ماهية له غير الوجود، فجعلوا "الوجود" صفةً جوهريةً، وهو
عنده تحكُّم لا برهان عليه.،
والحق أن مفهوم الواجد غامض، وغير متفق عليه.
نقده لبرهان الإمكان والوجوب
- لم
يُنكر أن الممكن يحتاج إلى علّة، لكنه رفض الوصول إلى واجب لا شريك له دون
دليل إضافي.
- كما
اعترض على التسلسل العقلي في سلسلة العلل، لأن وقف التسلسل في العقل لا يعني
وقفه في الواقع.
البديل الذي يقدّمه الغزالي
- قدّم
الغزالي براهين تعتمد على:
أ. إمكان
الحوادث وحدوث العالم: وهو برهان كلامي.
ب. الافتقار
الحادث للمحدِث.
ت. النظام
في الكون، لكنه أكّد أن هذه الأدلة تقود إلى إله إرادي حكيم سميع بصير، وهو
المطلوب شرعًا.
المفارقة العميقة
- الغزالي
وإن نقد براهين ابن سينا، إلا أنه في كتبه الروحية (كـ "المنقذ من
الضلال" و"إحياء علوم الدين") اقترب من المعنى الباطني لبرهان
الصدّيقين، حين أشار إلى أن معرفة الله الحقة لا تنال إلا عبر الكشف والذوق،
أي طريق الصدّيقين الحقيقي!
ثانيًا: فخر الدين الرازي –
محاولة التوليف بين الفلسفة والكلام
المنطلق المعرفي
فخر الدين الرازي (543–606 هـ)
ورث الموقف النقدي من الفلاسفة، لكنه بخلاف الغزالي، لم يرفض منطقهم بالكامل، بل
حاول استيعاب البراهين الفلسفية وإعادة تأويلها ضمن إطار كلامي سنّي أشعري.
موقفه من برهان الإمكان والوجوب
- تبنّى
الرازي هذا البرهان في أكثر من موضع، بل اعتبره في "المطالب العالية" أدقّ البراهين على وجود الله.
- لكنه
فصّله بكلاميّة أشعرية، حيث جعل واجب الوجود هو الموجود الذي لا يقبل العدم،
ورفض تأويل ابن سينا لوجوب الوجود بكونه "الوجود البحت" لا غير.
- أكّد
أن واجب الوجود يجب أن يكون قادرًا مختارًا، لا علّة موجبة بالذات كما عند
المشائين.
موقفه من برهان الصدّيقين
- لم
يرفضه من حيث البناء العقلي، لكنه رأى أنه ناقص في إثبات صفات الإله، ولا
يكفي للوصول إلى إله الشريعة.
- لذا
حاول دمجه ضمن مسار فلسفي – كلامي يثبت وجوب الوجود أولًا، ثم يُثبت اتصافه
بالعلم والقدرة والإرادة ثانيًا.
موقفه من البرهان الحركي
- أبدى
ترددًا في تبنّيه؛ لأنه يقوم على أُسس فيزيائية أرسطية تتعارض مع تصوره
الكلامي للكون الحادث.
الرازي كجسر بين المتكلمين
والفلاسفة
- حاول
التوفيق بين المذهبين في أعماله الأخيرة، فجمع بين قوة التحليل الفلسفي ودقّة
النقد الكلامي.
- يرى
أن الله لا يُعرف معرفة يقينية إلا عبر المزاوجة بين النظر العقلي والبرهان
الكلامي، مع انفتاح على الكشف الصوفي في بعض المواضع.
في ضوء العقل الفلسفي المعاصر
يمكن القول إن ابن سينا أرسى
الأساس البرهاني العقلي لوجود واجب الوجود، وجاء الغزالي لينبّه إلى قصور التصور
الفلسفي عن بلوغ الإله الحيّ الفاعل، بينما حاول الرازي أن يجسر الفجوة بين العقل
والكلام.
ولذا،
فإن أقرب طريق إلى الحقيقة قد يكون في الجمع بين صرامة ابن سينا، وتحذير الغزالي،
ومرونة الرازي.
موقف ابن رشد – العودة إلى أرسطو وتحرير العقل من هيمنة الفيض
المنطلق المعرفي
ينطلق ابن رشد (520–595هـ) من
موقف نقدي تجاه الفلسفة المشرقية لابن سينا، خاصة في ميتافيزيقا الوجود والفيض.
وقد سعى إلى استعادة أرسطو خالصًا، خاليًا من إضافات الأفلاطونية المحدثة.
نقده لبرهان ابن سينا
- رأى
أن برهان الصدّيقين عند ابن سينا مجرّد بناء ذهني، يعتمد على مفاهيم
"الإمكان" و"الوجوب" التي لم توجد في الأصل الأرسطي، بل
دخلت من طريق الأفلاطونية المحدثة.
- كما
اعترض على التفرقة بين "الماهية" و"الوجود"، واعتبرها خروجًا
عن منطق أرسطو الطبيعي، وأقرب إلى تصورات مثالية لا تجريبية.
البديل الذي اقترحه
- أعاد
الاعتبار إلى البرهان الحركي على وجود الله، ورأى أن الحركة الكونية تدل على
محرّك أول غير متحرك، وهذا هو الله.
- لكنه
حرص على عقلنة الإله لا تغييب إرادته، مخالفًا بذلك بعض تصورات ابن سينا التي
تُضعف الجانب الإرادي الإلهي.
الوظيفة الفلسفية للبرهان
- اعتبر
ابن رشد أن الفلسفة وسيلة عقلية لفهم الشريعة لا منازعة لها.
- ورأى
أن البرهان الحقيقي هو ما لا يتعارض مع النصوص الصحيحة، بل يُكمّلها.
موقف الملا صدرا – الثورة المعرفية من "الوجود" لا من
"المعقولات"
منهج الحكمة المتعالية
كان صدر الدين الشيرازي (المعروف
بالملا صدرا) رائد نقلة فلسفية عميقة، حيث تجاوز الجمود المشّائي والفصل بين
الفلسفة والكشف، من خلال رؤيته المسمّاة "الحكمة
المتعالية"، التي جمعت بين:
- العقل
البرهاني (ابن سينا)
- الكشف
العرفاني (ابن عربي)
- النص
الديني المؤوَّل
تطويره لبرهان الصدّيقين
- تبنّى
الملا صدرا برهان الصدّيقين، لكنه أعاد تأسيسه على قاعدته الكبرى:
"أصالة
الوجود وتعدد مراتبه"، وليس على المفاهيم المجردة
كـ"الإمكان" و"الوجوب".
- يرى
أن الوجود حقيقة متدرجة، والله هو الوجود الصرف غير المحدود، الذي تنبع منه
جميع الموجودات.
الفرق بينه وبين ابن سينا
- عند
ابن سينا، الوجود مفهوم يُستخلص من الماهيات.
- عند
الملا صدرا، الوجود حقيقة عينية واقعية، والماهية مجرد اعتبار ذهني.
- لذا
فبرهانه على وجود الله برهان شهودي – وجودي، لا مجرد منطقي.
دور الكشف
- يدمج
الملا صدرا الكشف العرفاني في بناء البرهان، ويرى أن العقل الصافي إذا سُمِّي
بالله كان صدّيقًا.
وعامةً يمكن القول بأن البراهين
الفلسفية التقليدية رغم قوتها، تعاني من عيوب ثلاث:
1.
الاغتراب
الوجودي: إذ تصف الله كمبدأ أو علة، لا
كـ"إله حيّ فعّال".
2.
الانفصال عن
النصوص: حيث تُبنى خارج القرءان، وبعيدًا عن خطاب
الوحي.
3.
القصور في
استيعاب الفطرة والشهود: إذ تغفل بُعد
"الحق الباطني"، وتُحصر في القوالب المنطقية.
وبرهان الصدّيقين هو أقرب
البراهين إلى التوحيد الخالص، لكنه يحتاج إلى إعادة صياغة قرءانية – وجودية، تبدأ
لا من الممكنات، بل من حقيقة الوجود ذاته بوصفه "آية الله الأولى"،
فلا يُطلب الله بوصفه نهاية لسلسلة علل، بل يُشهد بوصفه الحق الذي لا يتعدد ولا
يتكرر.
ولا يمكن أبدًا إهمال الأمور
الوجدانية في المسائل الإلهية، إنه يجب العلم بأن النفس البشرية مهيّأة بالفطرة
لإدراك حضور الله، لذلك فكل برهان عقلي ينبغي أن يُصاغ بطريقة توقظ الفطرة لا
تعقّدها.
والحق أن كل برهان إنما يثبت
جانيًا من الجوانب، فالبرهان الحركي رغم أنه جزئي مادي محدود،
إلا إنه يبرز الثبات الإلهي المطلق أو اللاتغير الإلهي المطلق Absolute
divine constancy and immutability.
والبرهان الغائي يُثبت إلهًا حكيمًا مدبرًا واحدًا.
والبرهان الإمكاني يبرز التعالي
الإلهي المطلق، والتنزيه الإلهي.
إنه لا يجوز بناء أو نفي براهين
بناءً على حماس شخصي غير موضوعي، أو بناء على ما توصل إليه إنسانٌ ما بعد تجارب
ذاتية أو رحلة ترقٍّ روحاني خاصة، قد يصل الإنسان إلى حقيقة أن الله هو الحقيقة
الأولى التي بها يُستدل على كل شيء، أو إلى اليقين التام بوجود إله، ولكن ليس من
حقه أن يلزم الناس يشيءٍ ذاتي خاصّ به، ولا أن يفرض نفسه على الآخرين، إلا إذا
تمكن من ترجمة ما لديه إلى برهان مبين.
والقرءان حافل بالبراهين على وجود
الله، والحقّ أن البراهين الحقيقية مفصلة فيه بطريقة إعجازية بلاغية موجزة، ومن
ذلك:
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ
شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل
لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ
الْمُسَيْطِرُونَ (37)} الطور
من البرهان إلى الشهود
يمثّل تطوّر براهين وجود الله في
الفكر الإسلامي سيرورة متكاملة:
- بدأها
ابن سينا بالعقل الصارم،
- وناقشها
الغزالي من جهة الوحي،
- وحاول
الرازي المزاوجة،
- ثم
طوّرها الملا صدرا إلى ميتافيزيقا شهودية.
والحق أنه لا يحوز التقيد بما وضعه
الأقدمون من أطر، أو الاستمرار في الرقص على نفس أنغامهم، يجب النظر إلى كل مسألة
نظرة شاملة انطلاقًا من كل الأسس ذات الصلة، والانتفاع بكل ما هو متوفر من علوم
ومعارف، ويجب قبل كل ذلك أخذ موقف جاد ومسؤول من مسألة الوحي، والالتزام الصادق بهذا
الموقف.
إن أفضل مكان للبراهين العقلية
على وجود الله هو اعتبارها براهين لإثبات بعض سماته وخصائصه، كما سبق بيانه.
نظرية ابن سينا في النفس
رأى ابن سينا أن النفس جوهر
روحاني مجرد، وهي تختلف عن البدن ولا تفنى بفنائه. وابتكر برهانه الشهير على وجود
النفس والمعروف بـ"الإنسان المعلّق في الفضاء"، حيث يتخيل إنسانًا خُلق
دفعة واحدة في وضعية معلق لا يرى ولا يسمع ولا يلمس شيئًا، لكنه يُدرك ذاته
إدراكًا مباشرًا، وهذا يدل على أن النفس تعرف ذاتها بذاتها، وأنها مستقلة عن الجسد.
وتُعد نظرية ابن سينا في النفس من
أهم إسهاماته الفلسفية على الإطلاق، وقد شكّلت إحدى الركائز الأساسية لفلسفة النفس
في الفلسفة الإسلامية واللاتينية على السواء. فقد سعى ابن سينا إلى الجمع بين
الفهم الأرسطي للنفس بوصفها مبدأ الحياة، وبين رؤية روحانية أعمق تؤمن بأن للنفس
جوهرًا مجردًا مستقلًا عن البدن.
أولًا: تعريف النفس عند ابن سينا
يعرّف ابن سينا النفس بأنها:
"كمالٌ
أوّلٌ لجسم طبيعي آليّ ذي حياة بالقوة."
ويُفصّل هذا التعريف ليشمل مراتب
ثلاثًا للنفس:
1.
النفس النباتية:
وهي
مبدأ التوالد والنمو والتغذي، وتمثّل الوظائف الحيوية المشتركة بين الإنسان
والنبات.
2.
النفس الحيوانية:
وهي
التي تدرك الجزئيات بالحواس، وتتحرك بالإرادة، كما في سلوك الحيوان الذي يطارد
فريسته أو يفرّ من خطر.
3.
النفس الإنسانية:
وهي
أرقى مراتب النفس، إذ تدرك الكليات وتفكّر وتختار بمحض إرادتها، وتمتاز بالحرية
العقلية والتجريد، وهي التي يتوجّه إليها الخطاب الأخلاقي والديني.
شرح عناصر التعريف:
- كمال
أول: أي مبدأ
أول يُحقّق لجسمٍ ما استعداده الفطري للحياة.
- جسم
طبيعي آلي: أي مركّب
عضوي مادّي، له بنية تؤهله لأداء وظائف الحياة.
- ذو
حياة بالقوة: أي أن
الحياة ممكنة فيه بالقوة، لا بالفعل، حتى تتصل به النفس.
ثانياً: براهين ابن سينا على وجود
النفس
قدّم ابن سينا عددًا من البراهين
الفلسفية لإثبات وجود النفس كجوهر مستقل، من أبرزها:
1.
البرهان الطبيعي:
أ. يلاحظ
ابن سينا أن بعض الحركات لا يمكن تفسيرها بالقوانين الفيزيائية وحدها، كحركة
الإنسان الواعية المخالفة لثقل جسده.
ب. فبينما
تسقط الأجسام طبيعيًا إلى أسفل، فإن الإنسان يتحرك إلى الأعلى، أو يغيّر اتجاهه
وفق إرادته.
ت. وهذا
يدلّ على وجود "محرك داخلي" غير مادي، أي النفس.
2.
البرهان النفسي
(الوجداني):
أ. يُلاحظ
ابن سينا أن الإنسان يتميّز بقدرات لا نجدها في الكائنات الأخرى، مثل:
الكلام،
الضحك، البكاء، التعجّب، التفلسف، إدراك المجردات، والاستنباط من المجهول.
ب. هذه
الملكات لا يمكن أن تكون ناتجة عن الجسم وحده، بل هي دليل على وجود جوهر مفارق هو
النفس.
ت. ويقول
ابن سينا:
"إن
هذا الشيء الذي يُدرك هذه المعاني ويتحكّم في بدنك، هو أنت، وهو النفس."
ثالثًا: تصور ابن سينا لأصل النفس
ومصيرها
على الرغم من الطابع الفلسفي
النظري، فإن موقف ابن سينا من أصل النفس، وعلاقتها بالبدن، ومصيرها بعد الموت،
يميل إلى الروحانية ويتضمّن إشارات عرفانية، يظهر فيها التأثر بالتقاليد
الأفلاطونية والمشرقية.
وقد لخص قصيدته العينية هذه
الرؤية بلغة شعرية شفّافة، جسّدت فيها النفس كيانًا نازلًا من عالم علوي، غريبًا
عن هذا الجسد الأرضي، جاء مُكرَهًا وسيرحل متحسرًا، وهي تقول في مطلعها:
هبطت إليك من المحل الأرفع*ورقاء
ذات تعزز وتمنّع
محجوبة عن كل مقلة عارف*وهي التي
سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك، وربّما*كرهت
فراقك، وهي ذات تفجع
أنِفَتْ وما أنِست، فلمّا واصلت*ألفَتْ
مجاورة الخرابِ البلقع
وهذا النص الشعري يُفهم على ضوء
فلسفته التي ترى أن النفس ليست من جنس البدن، بل هي جوهر مستقل يهبط من عالمٍ أرفع
ويتعلّق بالجسد تعلّق التدبير، لا الامتزاج.
ومن حيث الحقيقة فلا علاقة لهذه
القصيدة بحقيقة النفس أو الكيان الإنساني، ولا وجود حقيقي لإنسان بدون نفسه أصلا،
إن النفس هي الحقيقة الإنسانية الجوهرية، وهي المكلفة، والمخاطبة في القرءان.
رابعًا: علاقة النفس بالبدن
يفرّق ابن سينا بين النفس كجوهر
مستقل، والبدن كأداة وآلة، فالنفس تدبّر البدن دون أن تذوب فيه. وهذا يشبه – في
تشبيهاته – علاقة القائد بالجيش، أو الربان بالسفينة.
كما يرى أن النفس تبقى بعد
مفارقتها للبدن، وأنها تُحاسب على أفعالها، ولهذا أعطى البعد الأخلاقي في النفس
أهمية كبرى، إذ إن ترقيها في مراتب الوجود رهين بتزكيتها وتهذيب قواها.
إن نظرية ابن سينا في النفس هي
بناء فلسفي وروحي متكامل، يبدأ من المعطى الأرسطي ويُعيد تشكيله في ضوء التوحيد والتجريد
العقلي، ليجعل من النفس كيانًا عاقلًا خالدًا، غايته إدراك الحقائق العليا،
والتحرر من سجن البدن.
وقد أثرت هذه النظرية في فلاسفة
الإسلام بعده (كالسهروردي وملا صدرا)، وفي فلاسفة التصوف، كما انتقلت إلى الغرب
اللاتيني، حيث تبنّاها توما الأكويني جزئيًا في لاهوته، لتصبح إحدى اللبنات
الفلسفية في الفكر الأوروبي الوسيط.
الخلاصة أن النفس عند ابن سينا:
أ. جوهر
روحاني مجرد.
ب. واسطة
تدبيرية للجسد.
ت. مراتبها:
نباتية، حيوانية، إنسانية.
ث. هدفها:
العقل
الفعّال، والاتحاد به عبر المعرفة، مما يؤدي إلى خلود النفس المفارقة.
وعلى سبيل المقارنة فالنفس عند
ابن عربي ليست مجرد جوهر روحاني تدبيري كما عند الفلاسفة، ولا مجرد مخلوق بين
الروح والجسد، بل هي مقام وجودي حيّ يتراوح بين الإمكان والوجوب، بين الظلمة
والنور.
النفس هي مرآة الوجود، فيها
يتجلّى الحقّ بوجه، ويتجلّى الخلق بوجه آخر، وهي بينهما قائمة بالوساطة.
فالنفس عنده:
- ليست
ثابتة الهوية، بل متحوّلة بحسب مراتب التجلي.
- هي
مظهر للتجلّي الإلهي في العالم الإنساني.
- تمثل
الميدان الأكبر للجهاد والتزكية، وفيها يُكشف سرّ الله الأعظم.
مراتب النفس
ابن عربي يعتمد المراتب التي وردت
في النصوص، لكنه يحمّلها معاني عميقة ذات طابع عرفاني:
- النفس
الأمّارة: مظهر
الهيولى (المادة القابلة)، مرتبطة بالهوى.
- النفس
اللوّامة: بداية
استيقاظ النور، مقام التردد بين الحضرتين.
- النفس
المطمئنة: استواء
النفس في الحضرة الإلهية، مقام التسليم والرضا.
- وقد
يضيف مراتب أدق مثل: الراضية،
المرضية، الكاملة.
علاقة النفس بالروح والجسد
- الروح
عنده نفحة إلهية.
- النفس
هي موضع الصراع والتجلّي بين الجسد والروح.
- فهي
ليست وسيطًا بالمعنى الآلي، بل كاشف للوجود الإلهي في الخليقة.
غاية النفس عند ابن عربي
- الوصول
إلى معرفة الله في الذات، لا فقط عبر العقل أو الحسّ.
- تحقيق
الفناء في المشاهدة، لا بإعدام النفس، بل بتكميلها حتى تصبح مرآة صافية للحق.
نظرية العقل
قدّم ابن سينا تصورًا متدرجًا
لمراتب العقل:
- العقل
الهيولاني: القابل
للمعرفة بالقوة.
- العقل
بالملكة: الذي بدأ
يكتسب الصور.
- العقل
بالفعل: الذي
استوعب المعلومات.
- العقل
المستفاد: الذي
تلَقّى من العقل الفعّال.
- العقل
الفعّال: مفارِق،
يُفيض الصور على العقول البشرية.
وقد أثّرت هذه النظرية لاحقًا في
التصوف الفلسفي، لا سيما عند السهروردي وابن عربي.
المنطق والمنهج
كان ابن سينا منطقيًا من الطراز
الأول، وساهم في تطوير علم المنطق بما يفوق ما وصل إليه أرسطو في بعض الجوانب،
وركّز على الفصل بين التصور والتصديق، وعلى تصنيف أنواع القضايا والقياس، وبيّن
الفرق بين البرهان والجدل والخطابة.
ثالثًا: المصطلحات الفلسفية التي أثّرت في العرفان اللاحق
استعمل ابن سينا مجموعة من
المصطلحات الفلسفية التي ستجد لاحقًا حضورًا كثيفًا في لغة التصوف الفلسفي
والعرفان النظري، خاصة في المنظومات التي سعت إلى الجمع بين الفلسفة والمكاشفة،
بين العقل والكشف، فتم تأويل مفاهيمه ضمن أطر ذوقية رمزية تتجاوز حدود الفهم
العقلي الصرف. ومن هذه المصطلحات ما يلي:
- واجب
الوجود: وهو عند
ابن سينا المبدأ الأول، الذي لا يُتصوَّر عدمه، إذ وجوده من ذاته، وليس
معلولًا لغيره. وقد أولَه فلاسفة التصوف والعرفاء على أنه الحق المطلق أو الوجود
المطلق، الذي لا يقبل حدودًا أو تعيينًا، وتجلّت فيه جميع الكائنات. فهو
الحقيقة الوجودية الكلية التي تصدر عنها الموجودات جميعًا على سبيل التجلي لا
التخلق.
- العقل
الفعّال: عند ابن
سينا هو أحد العقول العشرة، وهو الذي يفيض الصور المعقولة على العقول
البشرية، ويُعدّ واسطة في المعرفة والوجود بين العقول المجردة والعالم
المادي. أما في العرفان، فقد تم تأويله على أنه العقل الكلي أو النور المحمدي،
أي أول تجلٍّ للحق في عالم الخلق، وهو الحقيقة المحمدية التي منها تفيض
المعاني على قلوب العارفين، ومن خلالها يُدرك العالم الباطني.
- فيض
الوجود: وهو
المفهوم الذي يستعمله ابن سينا لتفسير صدور الكثرة عن الواحد، عبر تسلسل عقلي
من أعلى إلى أدنى. أما عند فلاسفة التصوف، فقد تُرجم هذا المفهوم إلى مبدأ التجلي
الإلهي، حيث يُنظر إلى الوجود على أنه ظهور مستمر للحق في مراتب الوجود، من
الحضرة الأحدية إلى أدنى مراتب العالم الجسماني، في سلسلة لا نهائية من
التجليات.
- العقل
المستفاد: عند ابن
سينا هو المرحلة الأخيرة من الإدراك العقلي، حيث يتّحد العقل بالقضايا الكلية
إدراكًا، ويُصبح أقرب إلى العالم العقلي الفعّال. وقد أولَه العرفاء على أنه المقام
العقلي للعارف بالله، أي مرحلة من الوعي الروحي يبلغ فيها الإنسان إدراكًا
شهوديًّا للحقائق، يتجاوز به العقل النظري إلى العقل الذوقي.
- النفس
الناطقة: وهي عند
ابن سينا الجوهر الإنساني القابل للتجرد، وهي التي تميز الإنسان بالقوة
المفكرة. أما في أفق التصوف والعرفان، فقد أُوّلت على أنها الروح الإنسانية
في مسار التزكية، أي تلك الذات السائرة في مدارج السلوك، من النفس الأمّارة
إلى النفس المطمئنة، وصولًا إلى التحقق بالروحانية الصافية.
- الاتحاد
العقلي: وهو عند
ابن سينا حصول المعقول في العقل، حتى يصير العاقل والمعقول شيئًا واحدًا من
حيث الإدراك. وفي التأويل الصوفي، يعبر عن حالة الفناء في المعرفة الإلهية،
أي ذوبان إدراك العارف في نور الحقيقة، بحيث لا يرى إلا الله، لا باعتبار
حلول أو اتحاد وجودي، بل فناء شهودي معرفي.
هذه التناظرات تُظهر كيف تم تطويع
المفاهيم الفلسفية ضمن بناء عرفاني ذوقي يُضفي عليها بعدًا وجوديًّا وتعبّديًّا
يتجاوز التفسير العقلي إلى الكشف الروحي، فصار فكر ابن سينا خامةً قابلة للتأويل
الصوفي، رغم الفارق في المنهج والمقاصد بين الفلاسفة والمتصوفة.
وهكذا، فإن لغة ابن سينا أصبحت
اللغة الفلسفية التي استعان بها المتصوفة لاحقًا لصياغة نظرياتهم في المعرفة
والوجود.
رابعًا: أثره وتقييم فلسفته
أثره في الفكر الإسلامي
- كان
لفلسفة ابن سينا حضور كبير في المدارس الشيعية، وفي الفلسفة الإشراقية
(السهروردي)، ثم في الفلسفة العرفانية عند ابن عربي، وفي فلسفة صدر المتألهين.
- أما
في المدارس السنية، فقد تعرّض لنقد لاذع، خصوصًا من الغزالي، الذي كفّره في
ثلاث مسائل: قدم العالم، إنكار المعاد الجسماني، وقصور علم الله عن الجزئيات
بالتفصيل.
- رغم
ذلك، بقيت فلسفة ابن سينا تدرّس في بعض الحلقات العلمية، وأثّرت في علم
الكلام الأشعري في بعض أطواره المتأخرة.
أثره في الفلسفة الغربية
- تُرجمت
مؤلفاته إلى اللاتينية ابتداءً من القرن 12، وأصبحت مرجعًا رئيسًا في
الجامعات الأوروبية.
- ظل
يُدرَّس في الجامعات الأوروبية حتى عصر النهضة، خاصة كتابه الشفاء والقانون
في الطب.
أثره في اللاهوت المسيحي:
اعتمد القديس توما الأكويني، أحد
أبرز أعلام اللاهوت المسيحي في العصور الوسطى، على الفلسفة الإسلامية، وبخاصة
فلسفة ابن سينا، في صياغة نسق فلسفي لاهوتي متكامل، يهدف إلى عقلنة العقيدة
المسيحية وبيان انسجامها مع الفلسفة والعقل. فرغم تأثره أيضًا بأرسطو (عبر شروح
ابن رشد)، فقد لعبت مفاهيم ابن سينا الدور المحوري في بناء تصوراته حول الوجود،
والعلّة الأولى، والنفس، والعقل، والخلود، وغير ذلك من القضايا الميتافيزيقية.
لقد أخذ الأكويني عن ابن سينا
فكرة واجب الوجود بوصفه مبدأ لا يمكن أن يُعزى وجوده إلى غيره، واعتمدها كأساس في
إثبات وجود الله ضمن برهانه الشهير في "الخمس طرق". كما تأثر بتقسيم ابن
سينا للوجود إلى ممكن وواجب وممتنع، وبتمييزه بين الماهية والوجود، وهي أفكار لم
تكن مألوفة في اللاهوت المسيحي قبله.
وقد نتج عن هذا التوظيف للفلسفة
الإسلامية، وعلى رأسها السينوية (الفلسفة المشائية الإسلامية)، تأسيس ما يُعرف بـ "المدرسة
التوماوية"، التي مثّلت المذهب الفلسفي الرسمي للكنيسة
الكاثوليكية منذ مجمع ترنت (القرن السادس عشر)، ولا تزال تؤثر في الفكر اللاهوتي
الكاثوليكي حتى يومنا هذا. فبهذا التفاعل بين الفلسفة الإسلامية واللاهوت المسيحي،
تشكّلت صياغة عقلية فلسفية للعقائد المسيحية، سعت إلى التوفيق بين الإيمان والعقل،
ورفعت الفلسفة إلى مقام "الخادمة" للاهوت، وفق تعبير الأكويني نفسه.
نقد فلسفته
- اتُّهم
بتقديم تصور عقلاني بحت للعقيدة الدينية، مما جعله هدفًا لهجمات الأشاعرة
والغزالي.
- اعتُبر
قوله بقدم العالم وانبعاثه عن الله بطريق الفيض مخالفًا للتوحيد الخالص كما
هو في نصوص الوحي.
- ورغم
برهانه العقلي على وجود الله، إلا أن التزامه الكامل بالفكر الأرسطي جعل بعض
مفاهيمه تبدو مقيدة بالمقولات اليونانية.
خاتمة
إن ابن سينا يُعد بحق رائد
الفلسفة الإسلامية النسقية، وأحد أعمدة الفكر الإنساني في العصور الوسطى، وقد
استطاع عبر نسقه الفلسفي أن يقدّم قراءة عقلانية شاملة للوجود، ظلّت مرجعًا
للفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة على السواء.
وبينما تعرّض للرفض والاتهام من
بعض الاتجاهات الكلامية، فقد تم تبنيه وإعادة تأويله في مدارس معرفية أخرى، خاصة
العرفان الفلسفي، ما يدل على غنى فكره وقابليته للتطور والتأويل.
ولا تزال دراسته حتى اليوم تكشف
عن عمق غير مستنفد، وعن قدرة العقل الإسلامي – حين يتحرر من التقليد – على إنتاج
نسق فلسفي يضاهي أعظم ما أنتجته الفلسفة العالمية.
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق