هل كان انتشار الإسلام في مصر بحاجة إلى غزوة
همجية أعرابية؟
هل كان انتشار الإسلام في مصر
بحاجة إلى غزوة همجية أعرابية؟ كلا، بالطبع. بل إن هذه الغزوة الهمجية أخّرت
انتشار الإسلام الحقيقي في مصر، وطمست معانيه ومقاصده النبيلة، إذ لم يكن الإسلام
رسالة غزاة أو مطامع فاتحين، بل كان في جوهره دعوة للحق والعدل والروح، تنفر
بطبعها من القسر والنهب والهمجية.
لقد بدأ أول ظهور محسوس للإسلام
في مصر بين السكان المصريين الأصليين في عصور الاستقلال، وليس في زمن الغزو. ومنذ
أن استقل أحمد بن طولون بمصر سنة 254 هـ، بدأت ملامح التدين الحقيقي تظهر وتترسخ،
حيث لعب هذا الاستقلال دورًا مركزيًا في فصل المشروع الروحي للإسلام عن السلطة
السياسية الجشعة التي رافقته في بداية الدخول العسكري إلى مصر.
ولم يكن الفاتحون الأعراب هم من
نشروا الدين في مصر، بل إن الذي نشر الإسلام بمحبته وصفائه وروحه العالية كان
سلسلة مباركة من العترة النبوية، والأولياء الصالحين، وأئمة التصوف الذين خاطبوا
قلوب المصريين وعقولهم. وعلى سبيل المثال، أسلم كثير من المصريين على يد:
- السيدة
نفيسة، حفيدة الحسن بن علي، التي رأى المصريون فيها الطُهر والقداسة والرقي
والمحبة.
- ذي
النون المصري، أول من تكلّم بلغة الوجد الروحي والعشق الإلهي
- أبي
الحسن الشاذلي الذي تخصص في تربية الصديقين والصالحين.
- أبي
الحجاج الأقصري، الذي اختلط حبّه بالوجدان الشعبي حتى اليوم.
- أحمد
البدوي القطب الصوفي البطل، الذي تخصص في تحرير الأسرى المصريين من أيدي
الفرنجة.
لقد جاء هؤلاء بدين روحاني سامٍ،
لا بقعقعة السيوف، ولا بنداء الجزية، بل بجاذبية الحق والنور.
ولكي نقارن حجم المفارقة، يكفينا
أن نتذكّر أن رجلًا واحدًا فقط، هو القديس مرقص، تمكن من نشر المسيحية في مصر، في
أوج قوة الرومان الوثنيين، وفي ظل إمبراطوريتهم الطاغية. ولم يفتح مصر بجيش، ولم
يفرض على أحد أن يؤمن به، بل دخلها بروح المحبة والرحمة والرسالة، فآمن المصريون
برسالته، وتقبّلوا المسيحية بقلب نقيّ وعقل حرّ، وبلغ حبهم لها أن استشهد عشرات
الآلاف منهم دفاعًا عنها، وتحملوا أبشع أنواع الاضطهاد دون أن يتخلوا عن إيمانهم.
والمصريون أنفسهم هم من ابتدعوا
الرهبنة، في سعيهم العميق للزهد والخلاص الداخلي، وخرج من أرضهم آلاف الرهبان
والنساك الذين علّموا العالم فن الزهد والتأمل والانقطاع لله. فهل رأى المصريون في
جيش الأعراب وقائدهم عمرو بن العاص نموذجًا روحانيًا، أو قديسين زاهدين في الدنيا
كما كان الأنبياء والأولياء؟ أم رأوا غزاة همجًا متعطشين للغنائم، لا همّ لهم إلا
الفتح والنهب وتحصيل الخراج؟
ماذا قدم عمرو بن
العاص للمصريين؟
إن ما قدّمه عمرو بن العاص، بحسب
وقائع التاريخ، لا يُقارن أبدًا بما يتطلبه دخول دين سماويّ إلى قلوب شعبٍ متدينٍ
بطبعه. فقبل أن يتم غزو مصر بالكامل، كان عمرو يسبي النساء المصريات ويرسلهن
للحجاز لكي يُبعن هناك في الأسواق، رغم أن المصريين لم يقاتلوه، بل تركوه وشأنه في
صراعه مع الروم البيزنطيين، بسبب الخلافات العقائدية بين الكنيسة القبطية والكنيسة
الملكانية البيزنطية.
وقد تزامن دخول عمرو بن العاص إلى
مصر مع ذروة حملة اضطهاد بشعة شنّتها الكنيسة البيزنطية ضد الكنيسة القبطية، مما
جعل السكان الأصليين في حالة نفور من الدولة الرومية، لكنهم لم يقاتلوا العرب، ولم
يكن بينهم وبين عمرو عداوة مباشرة. ومع ذلك، عندما جلا البيزنطيون عن البلاد، فرض
عمرو الجزية على المصريين، رغم أنهم لم يحملوا السلاح ضدّه، بل تسامحوا معه.
أما الخلفاء في المدينة، فكان كل
ما يعنيهم هو نهب أكبر قدر ممكن من خيرات مصر، وقد وردت نصوص معروفة عن عمر وعثمان
في هذا السياق، تعتبر مصر خزانًا ماليا يُستنزف بلا رحمة.
وعن عمرو بن العاص نفسه، فقد كان أشدهم
نهمًا للذهب. بنى لنفسه قصرًا
كان يكدّس فيه تلال الذهب الذي بلغ عدة أطنان، حتى إن أبناءه رفضوا أخذ شيء منه
بعد وفاته، فأخذه معاوية، لأنه كان يعلم أنه "ذهب منهوب"، جمعه عمرو
بأشد الأساليب خسّةً ووحشية، من ضرائب ثقيلة، وجزية مذلّة، وغنائم مأخوذة من شعب
لم يحاربه أصلا.
فهل قدَّم عمرو والأعراب
للمصريين، الذين يقدّسون الزهاد والرهبان والأولياء الصالحين، أي نموذج يُلهمهم أو
يُقنعهم بقدسية هذا الدين الذي جاء به؟ هل رأوا فيهم وجه النبي محمد ﷺ الذي دعا
للرحمة والعدل والحرية والكرامة؟ أم رأوا فيهم نموذجًا آخر، مختلفًا جذريًا عن
الدين الذي كانوا مستعدين لتقبّله لو جاءهم من أهله الحقيقيين؟
بل لقد استمر العرب بعد الفتح في فرض
الجزية حتى على من أسلم من المصريين، حرصًا على الموارد المالية، حتى جاء عمر بن
عبد العزيز فأبطل ذلك، لكن البيروقراطية المتغوّلة فرضت ضريبة على أموات المصريين لتعويض
الخسائر!
ويجب العلم بأن أخذ الجزية لم يكن
مجرد تحصيل مالي، بل كان يتم بطريقة مهينة ومذلّة، كما أشار بعض الرحالة والمؤرخين
في وصف طريقة إذلال ، حيث كان من يدفع الجزية يُجبر على الانحناء أو يُصفع أو
يُعامَل بدون كرامة.، ثم يُختم على قفاه، ومازالت عبارة
"مختوم على قفاه" تُستعمل في التراث الشعبي المصري للدلالة على شخص مهين
محتقر.
دين مغشوش لا يمثل
الإسلام
لقد قدَّم عمرو والأعراب للمصريين
دينًا عدوانيًا همجيًا مشوَّهًا لا علاقة له بالإسلام الحقيقي، بل يناقضه في جوهره
ومقاصده، كان دينًا يُبرّر الهيمنة والنهب والجور والجشع والظلم، ويُقصي روح
الإسلام التي تدعو للحرية والرحمة والحق والعدل.
وهذا الدين لا يمكن أن يجتذب إنسانًا
ذا نفس سوية، ولا عقل حرّ، ولا وجدان روحي متفتح، لهذا لم ينتشر الإسلام الحقيقي
في مصر إلا في وقت لاحق، وعلى يد من حملوا من دين الحق النور، لا السيف؛ الرحمة
والهداية، لا الغلظة والجباية؛ الرسالة، لا السلطة، السموّ الروحاني، لا الغلظة
الهمجية الحسية.
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق