مقدمة
يتبنّى المذهب السُّني الأشعري
إطارًا معرفيًا عقديًا وفقهيًا واسع الانتشار، ارتبط اسمه بما يُسمى "عقيدة
أهل السنة والجماعة"، ويُفترض أن هذا المذهب يستند إلى مجموعة من المسلمات
والأسس والمصادر التي تحكم التصور الديني والتشريعي، وتضبط العلاقة بين الوحي
والعقل، وبين النص والاجتهاد، وبين الأصول والفروع.
غير أن مراجعة تطبيقات هذا المذهب
في مسائل فقهية خطيرة – مثل قتل المرتد، وقتل تارك الصلاة، واعتبار الطلاق الشفهي
نافذًا، وتوريث العصبة – تكشف عن مفارقة صارخة بين تلك المسلمات النظرية،
والممارسات الفقهية الفعلية، بل وتُبرز نوعًا من النسخ العملي لأحكام القرءان
المحكم باسم (السُّنّة) أو الإجماع أو القياس، بما يخالف أصول المذهب ذاته.
أولًا: مسلّمات
وأسس المذهب السُّني الأشعري
يُمكن تلخيص المسلّمات والمصادر
الرئيسة للمذهب في المجالات الثلاثة الآتية:
في مجال العقيدة
(أصول الدين):
- مصدر
العقيدة هو:
أ. القرءان
الكريم أولًا.
ب. الحديث
المتواتر ثانيًا.
ت. العقل
القطعي ثالثًا.
- خبر
الآحاد لا تثبت به العقيدة، لأن العقيدة لا تُبنى إلا على اليقين.
- لا
يجوز نسخ آية قرءانية لا نصًا ولا حكمًا إلا بآية قرءانية أخرى.
وهذا ما قرّره الإمام الشافعي في
"الرسالة"، وأكّده كبار الأشاعرة مثل الجويني، والآمدي، والرازي،
والبيضاوي.
في مجال التشريع
(الفقه):
- مصادر
التشريع أربعة:
1.
القرءان: المصدر
الأول، قطعي الثبوت.
2.
السُّنّة: ويُشترط
فيها الصحة والاتصال.
3.
الإجماع المنضبط،
لا الظنّي.
4.
القياس: المعتبر
بضوابطه.
- تقبل
الظنيات خبر الآحاد، وقياس الظن في الفقه، لا في العقيدة.
في المنهج:
- لا
يجوز تقديم الحديث على القرءان في حال التعارض، إلا إذا كان الحديث مفسرًا أو
مبيّنًا لا ناسخًا.
- تُفرَّق
الأحكام بحسب درجاتها من الظن واليقين، ولا يجوز الجزم في الأحكام القطعية
إلا بأدلة قطعية.
ثانيًا: مدى
الالتزام بهذه الأسس في التطبيقات الفقهية
رغم وضوح هذه المبادئ، إلا أن
المذهب السني الأشعري – في فروعه الفقهية، لا سيما الشافعية والمالكية – خالفها في
مسائل أساسية، نذكر منها:
قتل
المرتد
- المصدر: حديث آحاد: "مَنْ بَدَّلَ
دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ".
- التعارض
مع القرءان:
أ.
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي
الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ
تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين} [سورة يونس: 99]
ب. {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [سورة
البقرة: 256]
ت. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن
دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي
اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ
لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ
عَلِيم} [المائدة:54]
ث. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ
كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ
لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} [النساء:137].
فالقرءان يقرر
في نصوص محكمة قطعية الدلالة حرية الإيمان، وأن من يرتدون سيأتي الله بمن هم خيرٌ
منهم، وأن عقوبة المرتد ستكون في الدار الآخرة.
- المفارقة:
أ. الحديث
آحاد، والموضوع يتعلق بالإيمان والكفر.
ب. ومع
ذلك جُعل دليلا لعقوبة دنيوية خطيرة تُخالف حرية الدين التي قرّرها القرءان.
ت. مبررهم:
زعموا
وجود "إجماع"، ولكن الإجماع هنا غير منضبط نصيًا ولا تاريخيًا.
استتابة وقتل تارك
الصلاة
- المصدر: حديث آحاد: "العهد الذي بيننا
وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر".
- التعارض
مع القرءان:
لا عقوبة دنيوية
تُذكر.
- المفارقة:
أ. لم
يَرِد نص صريح بقتل تارك الصلاة.
ب. والحديث
لا يبلغ حد التواتر، ومع ذلك استُخدم لإزهاق النفس.
- مبررهم: قالوا إنه "كفر عملي لا
اعتقادي"، ومع ذلك قتلوا عليه، رغم أن الكفر العملي لا يوجب قتلًا!
قتل منكر
"المعلوم من الدين بالضرورة"
- المصدر: لا نص قرءاني أو حديث متواتر، بل
قاعدة أصولية ظنية.
- التعارض
مع القرءان:
ب. {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُسَيْطِرٍ (22)} الغاشية
ت. {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم
بِوَكِيل} [سورة الأنعام: 66]
ث. {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل} [سورة الأنعام: 107]{قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا
يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ
عَلَيْكُم بِوَكِيل} [سورة يونس: 108]
ح.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ
أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل} [الشورى:6]
خ.
{مَّنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80]
د.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا
الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُور} [الشورى:48]
ذ.
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272]
ر.
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ
عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين} [النحل:125]
هذا بالإضافة
إلى كل الآيات التي تقرر حرية الإيمان
- المفارقة:
أ. لا
وجود لهذه القاعدة في نصوص محكمة.
ب. ومع
ذلك، استعملت لتشريع القتل.
ت. أعطوا
للمتسلطين عليهم سلطات لم يعطها الله سبحانه للرسول نفسه.
- مبررهم:
لم يقدموا أي مبرر يُعتد به.
الوقوع الفوري للطلاق
الشفهي
- المصدر: عرف فقهي وبعض المرويات غير القطعية.
- التعارض
مع القرءان:
أ.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن
بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ
لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1]
ب. {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ
مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل
لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]
ت. {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ
مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ
اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} [سورة البقرة: 229]
- المفارقة:
أ. القرءان
يُلزم بالإشهاد والتوثيق والتدرج، وهم أخذوا باللفظ الشفهي وحده.
ب. فحكموا
على البيوت بالانفصام بكلمة لحظية، دون تحقق من عدل أو قَصد.
- مبررهم: "الطلاق حقٌّ للزوج
بلفظه"، وهو استدلال عرفي لا نصي.
الطلاق ثلاثًا في
مجلس واحد
- المصدر: اجتهاد عمر بن الخطاب.
- التعارض
مع القرءان:
ما سبق ذكره من
الآيات القرءانية المحكمة.
- المفارقة:
أ. نصّ
القرءان واضح بالتدرج، وهو يجعل الطلاق عملية مركبة معقدة.
ب. فوقع
هنا نسخ فعلي لحكم قرءاني صريح باجتهاد أحد الأشخاص.
- مبررهم: "مصلحة تأديبية"، لكنها لا
تُسوّغ تعطيل النص القطعي.
- الحكم:
هم جعلوا من مخلوق مشرعًا في الدين، ونسخوا يقوله أحكام ربّ العالمين، وهذا
من الضلال والشرك المبين، قال الله تعالى:
{أَمْ
لَهُمْ شُرَكَاء
شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ
يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ
كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيم} [الشورى:21]
توريث العصبة
- المصدر: حديث آحاد: "فما بقي فلأولى
رجل ذكر"، تبرأ منه من نسبوه إليه، وكان فعله بخلافه
- التعارض
مع القرءان:
أ. القرءان
لم يذكر العصبة، بل بيّن الورثة مفصلين.
ب. أعطى
كل ذي حق حقه صراحة.
- المفارقة:
أ. حُكم
العصبة ليس نصًا قرءانيًا، ومع ذلك صار مقدمًا عمليًا على النص عند التزاحم.
- مبررهم:
مروية ظنية وعمل الصحابة"، وهو ليس حجة على النص المحكم.
ثالثًا: خلاصة المفارقة الكبرى
المبدأ الشافعي: لا يُنسخ القرءان
إلا بقرءان
الممارسة الفعلية: نُسخت آيات
الحرية، والصلاة، والإرث، وغيرها بأحاديث أو اجتهادات
المبدأ الشافعي: خبر الآحاد لا
يُؤخذ به في العقيدة
الممارسة الفعلية: بُنيت عليه
أحكام القتل والإكراه العقائدي
المبدأ الشافعي: يُشترط القطع في
الدماء والأعراض
الممارسة الفعلية: أُزهقت الأرواح
بأحاديث ظنية أو أعراف فقهية
المبدأ الشافعي: لا يجوز تقديم (السُّنّة)
على القرءان
الممارسة الفعلية: تم ذلك فعليًا
في أحكام الطلاق، والردة، والتوريث
أما موقف أبي حنيفة من المرويات
فمعلوم.
خاتمة:
لا حلَّ إلا بالأخذ بدين الحقّ؛
كاملا غير منقوص
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق