الثلاثاء، 8 يوليو 2025

أبو حامد الغزالي: باني النفوس وموثّق العقول – من أعظم وأخطر العقول في تاريخ الإسلام والمسلمين

 أبو حامد الغزالي: باني النفوس وموثّق العقول – من أعظم وأخطر العقول في تاريخ الإسلام والمسلمين

 

مقدمة: رجل في مفترق القرون

في تاريخ الفكر الإسلامي، قلّ أن تجد شخصية أثارت من التأمل والتحليل ما أثارته شخصية أبي حامد الغزالي (450 – 505 هـ / 1058 – 1111 م)، فقد جمع في شخصه مفارقات مذهلة:

  1. محدّث العقلاء، ومُحيي القلوب.
  2. سلطان المدرسة، وسالك طريق الخلوة.
  3. المدافع عن المذهب، والناقد له من الداخل.
  4. صانع المرجعية السنية الرسمية، وناقد بنيتها المتهافتة.
  5. محرّك الإحياء الديني، ومجمّد المشروع الفلسفي والعلمي.

لقد كان الغزالي أكثر من مجرد عالم، بل كان منعطفًا تاريخيًا تشكّلت عنده صورة الإسلام السنّي الوسيط، وتحددت من خلاله ملامح الصيغة العقائدية والروحية والفقهية التي ستُسيطر على العالم الإسلامي لأكثر من ثمانية قرون. ومع هذا الحضور الطاغي، يأتي السؤال المشروع:

هل كان الغزالي مجددًا نهضويًا؟ أم حارسًا لبنية قديمة؟
هل أطلق طاقات الأمة؟ أم جمدها داخل "صيغة آمنة" لا تتغير؟

 

أولًا: الغزالي وتحصيل الذروة الأشعرية

تلقّى الغزالي علومه في نيسابور على يد إمام الحرمين الجويني، فأتقن الفقه والأصول، وأتقن علم الكلام على الطريقة الأشعرية. ولم يكن مجرد متعلّم، بل سرعان ما صار أستاذًا في المدرسة النظامية في بغداد، وبلغ في سنٍّ مبكرة مكانة علمية لم يبلغها أحد من أقرانه.

وللإمام الغزالي كتاب باسم "المنخول في علم الأصول".

هذا الكتاب يُعد من باكورة أعمال الإمام الغزالي في علم أصول الفقه. وقد ألفه في حياة شيخه إمام الحرمين الجويني، واختصر فيه آراء شيخه في الأصول، ومع ذلك، ظلت شخصيته النقادة حاضرة وقوية فيه.

"المنخول" كتاب في أصول الفقه وليس في العقيدة (علم الكلام) بشكل مباشر، أصول الفقه هو علم يُعنى بكيفية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية (القرءان والسنة والإجماع والقياس)، بينما العقيدة تهتم بمسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

الجدير بالذكر أن الغزالي تراجع عن كثير من آرائه الأصولية التي تبناها في "المنخول" في كتبه الأخرى الأكثر نضجًا مثل "المستصفى في علم الأصول"، والذي يُعتبر كتابه الأهم والأكثر اعتمادًا في هذا الفن. ولهذا السبب، فإن "المنخول" أقل رواجًا وانتشارًا من غيره من مؤلفاته.

ومن أبرز كتب أصول الفقه عند المتكلمين، والذي كُتِب تحت تأثير الغزالي. "المحصول في علم أصول الفقه"، وهو كتاب لفخر الدين الرازي (ت 606 هـ)،. وقد جاء الرازي بعد الغزالي، وكتابه هذا يُعتبر شرحًا أو تعليقة على "المستصفى" للغزالي، ولكنه تجاوز ما جاء في المستصفى وزاد عليه وأصبح مرجعًا بذاته.

بلغ الغزالي بذلك بما يُسمى بعلم أصول الفقه ذروته، وأصبح شغل من جاؤوا بعده الشرح والتخليص والتعليق.

 

أما في العقيدة الأشعرية وأصول الدين فقد كتب كتبًا من أعظمها:

1.   الاقتصاد في الاعتقاد:

أ‌.      أهميته: يُعتبر هذا الكتاب من أهم مؤلفات الغزالي في علم الكلام والعقيدة الأشعرية. يُقدم فيه الغزالي عرضًا منظمًا ومُحكمًا لعقائد أهل السنة والجماعة على طريقة الأشاعرة، مع استخدام الدليل العقلي والنقلي.

مميزاته: يتميز هذا الكتاب بكونه خلاصة فكر الغزالي في علم الكلام في فترة من أهم فترات حياته الفكرية، حيث حاول فيه الجمع بين العقل والنقل، وتقديم العقائد بصيغة تيسر فهمها وتثبتها، يُقال إنه من آخر الكتب التي ألفها الغزالي قبل اعتزاله التدريس في المدرسة النظامية.

فكتاب "الاقتصاد في الاعتقاد"  تلخيص للعقيدة الأشعرية بطريقة معتدلة

2.   الرسالة القدسية في قواعد العقائد (ضمن إحياء علوم الدين):

أ‌.      أهميته: على الرغم من أنها جزء من كتاب "إحياء علوم الدين" (الربع الأول، كتاب قواعد العقائد)، إلا أنها تُعد رسالة مستقلة ومكثفة في العقيدة الأشعرية. ألفها الغزالي في بيت المقدس خلال فترة عزلته.

ب‌.  مميزاتها: تُقدم عرضًا موجزًا ومكثفًا لأصول العقيدة الأشعرية، من التوحيد، الصفات، الأفعال، إلى النبوات، والمعاد، وغيرها. تُعتبر مدخلاً جيدًا لمن يريد فهم العقيدة الأشعرية عند الغزالي بتركيز.

3.   المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى:

أ‌.      أهميته: هذا الكتاب وإن كان ظاهره في شرح أسماء الله الحسنى، إلا أنه يتضمن الكثير من المسائل العقدية المتعلقة بصفات الله تعالى، ويثبتها على طريقة الأشاعرة، ويرد على المخالفين في فهمها.

ب‌.  مميزاته: يعرض أسماء الله الحسنى مع ربطها بمعانٍ عميقة تلامس الجانب الروحي والتصوفي، لكن بأسس عقدية قوية.

4.   تهافت الفلاسفة:

أ‌.      أهميته: هذا الكتاب ليس كتابًا في العقيدة الأشعرية المباشرة، ولكنه كتاب نقدي فلسفي يُعدّ من أعظم كتب الغزالي في الرد على الفلاسفة (خاصة ابن سينا والفارابي) في مسائلهم التي يعتبرها مخالفة لأصول الدين الإسلامي، والتي تتضمن قضايا عقدية خطيرة كقدم العالم، وعلم الله بالجزئيات، وإنكار المعاد الجسماني.

ب‌.  مميزاته: يُظهر قوة الغزالي في الجدل العقلي والفلسفي، وكيف أنه استطاع أن يفكك حجج الفلاسفة من داخل منظومتهم، مما أحدث تأثيرًا كبيرًا في الفكر الإسلامي وأصول علم الكلام.

كان كتاب "تهافت الفلاسفة" بمثابة  إعلان حرب على الفلسفة، وضرب لثقة المسلمين بالعقل الفلسفي.

وقد مهدّ له الغزالي بكتاب مقاصد الفلاسفة، وهو  شرح للفلسفة نفسها، تمهيدًا للردّ عليها.

بشكل عام، يعكس الغزالي في هذه الكتب منهجه الأشعري الذي يجمع بين النقل الصحيح والعقل الصريح، مع الميل نحو الجانب الروحي والتصوفي في مراحل متأخرة من حياته، وهو ما يتجلى بشكل واضح في "إحياء علوم الدين" الذي يُعتبر موسوعته الكبرى في جميع علوم الدين.

وقد جعلت هذه الكتب الغزالي رأس المدرسة الأشعرية في عصره، وأكسبته لقب "حجة الإسلام"، لكنه في باطنه كان يمرّ بأزمة ضمير وشك داخلي عميق.

 

ثانيًا: أزمة الكلام ونهاية الثقة بالمذهب

رغم تفوقه في علم الكلام، كتب الغزالي لاحقًا كتابه الخطير "إلجام العوام عن علم الكلام"، الذي يُعد من أبلغ الشهادات على عدم جدوى المنهج الكلامي الأشعري في صياغة العقيدة.

إلجام العوام عن علم الكلام:

أهميته: هذا الكتاب يُعتبر وصيته الأخيرة في العقيدة، كتبه في أواخر حياته، ويعكس تحوله إلى منهج يرى فيه أن الخوض في تفاصيل علم الكلام قد لا يكون مناسبًا لعامة الناس، وأن الأولى بهم هو التمسك بعقيدة السلف الصالح.

مميزاته: يؤكد فيه على أهمية الإيمان الإجمالي والتسليم، ويحذر من الغلو في الخوض بالدليل العقلي الذي قد يوقع العوام في الشكوك. يُظهر هذا الكتاب مرحلة من نضج الغزالي الفكري، حيث دعا إلى التوسط والاعتدال في تناول مسائل العقيدة.

 

فهو في هذا الكتاب:

  • دعا إلى إقصاء العامة عن علم الكلام.
  • أقرّ أن علم الكلام لا ينتج يقينًا قلبيًا ولا إيمانًا حيًّا.
  • صرّح أن معظم المتكلمين لا يخرجون من دائرة الجدل دون يقين.

وهكذا يُقر الغزالي أن المذهب الأشعري الذي ساهم في بلوغه الذروة، ليس مشروعًا لبناء الإيمانيات الحية الملهمة، بل مجرد رد فعل جدلي على المعتزلة، لا يصلح إلا لأهل الجدل، ولا يورث الإيمان.

إن إقرار من هو ذروة العقيدة الأشعرية بعدم جدواها للعامة يعني بكل بساطة عدم جدواها أصلا، ويكشف عن أنها لا تصلح إلا كأداة غير مجدية لمغالبة آخرين جدليا، أو لدفاع غير مجدٍ ضد الشكوك والأوهام.

والسؤال: كيف يمكن أن يوجد دين بدون عقيدة؟ أي بدون إيمانيات حقيقية؟

 

ثالثًا: الأزمة الوجودية: من نجم الدولة إلى سالك الطريق

لم تكن أزمة الغزالي معرفية فقط، بل كانت أزمة وجودية ضارية. فمع ما بلغه من الجاه والعلم، شعر أن كل ما يقوم به لا يزيده إلا بعدًا عن الله.

قال في "المنقذ من الضلال":

"أدركت أنني أُقبِل على علم لا ينفع، وأنني منغمس في طلب الجاه، لا في طلب الله."

بدأت نوبة من الشك المرير:

  • هل ما أدرّسه هو الحق؟
  • هل ما أكتبه منطق لله أم للدولة؟
  • هل العقائد التي ألقنها تنبع من الوحي أم من الحِجاج الكلامي؟

فترك كل شيء، وهجر منصبه، وسافر في طلب الخلوة، وعاش حياة الزهد والتجربة الروحية، وأعاد النظر في كل ما تعلّمه.
لقد كان، بذلك، سابقًا لـ "ديكارت" ومعلمًا له، يشك في كل شيء حتى يجد يقينًا لا يهتز.

ثم بدأ اليقين يدخل إلى قلبه من الباب الذي كان الدين الرسمي قد أوصده بإحكام، باب الوجدانيات، فقال:

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزلٍ
وعدت إلى تصحيح أول منزلِ

ونادت بي الأشواق مهلاً فهذه
منازل من تهوى، رويدك فانزلِ

 

رابعًا: التصوف... تصحيح أول منزل

عاد الغزالي من رحلته باكتشاف مذهل: أن العقيدة الحقة لا تُبنى بالجدل، بل بالتزكية والمعرفة القلبية.
كتب في أبياته المشهورة:

فصار التصوف عنده:

  • طريقًا للتحقق، لا مجرد وعظ.
  • تربية للنفس، لا شطحات أو طقوس.
  • علمًا يُبنى على الذوق والمجاهدة، لا على الورق والمناظرة.

وقد خلّد هذه التجربة في كتابه العظيم "إحياء علوم الدين"، الذي جمع فيه بين فقه القلب وروح الشريعة.

 

خامسًا: إدخال التصوف في بنية الدين السني

لكن الغزالي لم يخرج من المؤسسة، بل أعاد تشكيل الدين السني من داخلها.

فأنتج ما يمكن أن نسمّيه:

الصيغة الغزالية = أشعرية عقائدية + شافعية فقهية + تصوف سنّي مضبوط

وتبنّت هذه الصيغة:

  • الدولة الزنكية: لنور الدين زنكي.
  • الدولة الأيوبية: لصلاح الدين الأيوبي.
  • السلطنة المملوكية: في مصر والشام.

وهكذا أصبح التصوف جزءًا من الدين الرسمي، لكن بنسخته المؤمَّنة، الخالية من الثورية أو النقد السياسي.

كانت هذه الصيغة الغزالية شديدة التأثير، وساهمت في يقظة الأمة ونهضتها، وأعطتها الأيديولوجية العامة التي مكنتها من التصدي للأخطار الماحقة التي هددت وجودها من الشرق والغرب.

 

سادسًا: الوجه المظلم للصيغة الغزالية

لكن هذه الصيغة لم تكن بلا ثمن. فقد كانت:

  • رافضة للفلسفة والفكر الحر.
  • معادية للعلوم الطبيعية، باعتبارها من الفلسفة، ورافضة للسببية رفضًا كارثيا.
  • ترتاب تجاه كل ما ليس منصوصًا عليه فقهًا أو كلامًا.

في "تهافت الفلاسفة"، دمّر الغزالي الثقة بالعقل الفلسفي.
وفي حديثه عن القلب، وصفه بأنه "عضلة صنوبرية لا غرض شرعي فيها"، وهو ما ساهم في نفي العلوم التشريحية والطبيعية من التعليم الديني.

ثم جاءت الدول التي تبنّت صيغة الغزالي (أشعرية + شافعية + تصوف سني)، لتطبّقها بصرامة

 

الدولة الغزالية… إمبراطورية النصر دون مشروع حضاري

مع صعود نموذج الغزالي الذي دمج بين الأشعرية العقدية والشافعية الفقهية والتصوف السنّي التربوي، تبنّت الدول الإسلامية هذه "الصيغة الثلاثية" بوصفها هوية دينية رسمية. وقد وُظّفت هذه الصيغة لتثبيت شرعية الدولة، وتقييد العقل النقدي، وتحجيم الفلسفة والمذاهب العقلانية.

صلاح الدين الأيوبي:

مثّل صلاح الدين (ت. 589هـ) النموذج الأوضح لتبنّي النسخة الغزالية الصارمة، وقد انعكس ذلك على سياساته الدينية والثقافية:

  • إلغاء التراث الفاطمي: أُغلقت مكتبة دار الحكمة بالقاهرة، وهي إحدى أعظم مكتبات العصور الوسطى، وقيل إن بعض كتبها استُخدمت وقودًا أو أُهينت باستعمالها كأدوات دنيوية كالأحذية والفرش، في دلالة رمزية على إنهاء المشروع الفاطمي/الفلسفي.
  • إقصاء الفلسفة: أُغلقت المدارس التي كانت تُدرّس الفلسفة والعلوم العقلية، بما فيها الجامع الأزهر نفسه، الذي أُعيد فتحه لاحقًا، في عهد الظاهر بيبرس، كمؤسسة سنية أشعرية
  • قتل السهروردي: أمر صلاح الدين بإعدام الفيلسوف الإشراقي شهاب الدين السهروردي (ت. 587هـ) في حلب، بعد اتهامه بالزندقة، بسبب أطروحاته الفلسفية والروحية التي تجاوزت الإطار السني التقليدي.

وهكذا تأسّست الدولة الأيوبية على النموذج الغزالي: قمع الفلسفة والعقل النقدي، وتقديس التقليد الفقهي، وتوظيف التصوف المروَّض لإنتاج طاعة داخلية. وكانت النتيجة دولًا قوية عسكريًا لكنها محدودة فكريًا، قادرة على الانتصار العسكري، لكنها عاجزة عن بناء مشروع حضاري متجدد.

 

سابعًا: الغزالية الحديثة ومعاداة النهضة

استمر أثر "الصيغة الغزالية" في الأزمنة الحديثة، حين أعادت المؤسسات الدينية إنتاجها بثوب تقليدي مقاوم للحداثة والتقدم، سواء في الأزهر أو الزيتونة أو القرويين أو ما شابهها من مراكز دينية.

أبرز ملامح هذه الغزالية المعاصرة:

  • مقاومة التحديث العلمي: رفضت دخول العلوم الطبيعية إلى مناهج التعليم، واعتبرت بعضها بدعًا أو فتنة.
  • تكفير الفلسفة وتحريم الإبداع: شُنّت حملات تكفير ضد المفكرين والفنانين، وضُيّق على كل من حاول الجمع بين الدين والعقل.
  • عداء للجيوش الحديثة والمدارس الإصلاحية: وقفت هذه المؤسسات ضد تأسيس جيش نظامي، وضد المدارس الحديثة التي تُدرّس المواد العلمية والتقنية.
  • رفض الحداثة الاجتماعية: عارضت المؤسسات الدينية مشاريع الصحة العامة، وبناء المستشفيات، وإدخال المراحيض الحديثة، وحرية النساء، وحقوق الإنسان، باعتبارها تغريبًا أو فسقًا.

نماذج من مقاومة النهضة:

  • محمد علي باشا (ت. 1265هـ / 1849م):
    أنشأ جيشًا حديثًا، وبعثات علمية إلى أوروبا، وأدخل المطابع والمدارس الصناعية والطبية، لكن العديد من المشايخ عارضوه، واعتبروا ما يفعله خروجًا على الدين وتقاليده، وقد اضطر ليفتتح المدرسة الحربية في أسوان بعيدًا عن المشايخ وتهييجهم للعامة.
  • الخديوي إسماعيل (ت. 1312هـ / 1895م):
    ألغى نظام الرق، وجرَّم أسواق العبيد، وطوّر البنية التحتية، وأسّس دار الأوبرا ومدارس البنات، لكن قوبلت إصلاحاته بهجوم من مشايخ اعتبروا ذلك تفريطًا بالشريعة.
  • الحداثة اليومية:
    حتى إدخال الصنابير الحديثة في البيوت، أو المراحيض الصحية، أو تعليم المرأة أو المدارس المختلطة، أو المطبعة، كان محل مقاومة شرسة من أنصار هذه المؤسسات، الذين اعتبروا ذلك بدعًا ضلالة، أو تقليدًا للغرب الكافر.

المفارقة:

إن أبرز ملامح التقدم الحديث في العالم الإسلامي لم تأتِ نتيجةً لتوجيه المؤسسات الدينية، بل رغمًا عنها. لقد كانت النهضة العلمية والصناعية والإدارية ثمرة حركات إصلاحية مدنية وعلمانية في الغالب، فيما وقفت المؤسسة الدينية الغزالية موقف الرقيب المعارض أو الحذر الصامت، ولم تكن يومًا رائدة في التجديد أو الابتكار.

 

خلاصة هذا القسم:

وهكذا، تحوّلت الغزالية، من مشروع فردي عند الغزالي يجمع بين التصوف والعقل والفقه، إلى نسق مؤسسي جامد، يُقدّس التقليد، ويُقصي التجديد، ويتماهى مع السلطة. فصارت الدولة الغزالية الحديثة صورة من الدول الوسيطة:
قوية في السيطرة، ضعيفة في الخلق
مدجّجة بالجنود، لكنها خالية من الرؤى
تنتصر في المعارك، وتخسر في الحضارة.

 

ثامنًا: إنكار السببية الأشعرية وأثره على الانحطاط العلمي

كان لإنكار السببية – كما نظّر له المذهب الأشعري، وعمّقه الغزالي أثر بالغ في تعطيل المسار العقلي والعلمي في الحضارة الإسلامية.
ففي إطار التصور الأشعري، لا وجود لعلل أو قوانين طبيعية ثابتة، بل كل ما يقع في الكون إنما يتم بإرادة مباشرة متجددة من الله، تتكرر في كل لحظة من دون اعتماد على روابط سببية بين الظواهر.

من الغزالي إلى العوام: تعطيل العقل العلمي

في تهافت الفلاسفة، يصرّح الغزالي قائلًا:

"إن اقتران العادة بين ما يُعدّ سببًا وما يُعدّ مسببًا ليس من الضرورة في شيء، بل الله هو الفاعل المختار، يخلق الاحتراق عند تماس النار، وليس بسببها."

ورغم أن الغزالي أراد بهذا تفنيد "الضرورة العقلية" التي يتمسك بها الفلاسفة، إلا أن هذه الفكرة انتقلت إلى الحس العام للأمة على شكل نفي للثبات والاطراد الكوني، ورفض لفكرة القانون الطبيعي، وهي الأساس الذي قامت عليه النهضة العلمية الحديثة.

وبذلك، تسرّبت إلى الوعي الجمعي فكرة أن:

  • لا حاجة لدراسة الطبيعة وقوانينها، فكل شيء مرهون بالمشيئة اللحظية.
  • لا طائل من البحث عن الأسباب، لأن الفاعل الوحيد هو الله، بلا وسائط.
  • بل قد يُنظر إلى محاولة كشف القوانين الطبيعية على أنها تدخل في الغيب، أو منازعة للمشيئة الإلهية.

والمشكلة الأكبر هو تحريف مفهوم المشيئة الإلهية عند الناس، فأصبحت تعني العشوائية، مع إنكار الأشعرية للحكمة في الأفعال الإلهية.

 

التصوف كداعم للخرافة: الطيران في الهواء والمشي على الماء

تعمقت أزمة نفي السببية حين امتزجت بالتصوف الشعبي الذي شجّع على الكرامات والخوارق، واحتفل بها بوصفها تعبيرًا عن "قوة اليقين" لا عن شروط الواقع.

ففي أجواء الزهد الغزالي والتصوف الأشعري، أصبحت الكرامات معيارًا للفضل، حتى شاع:

  • أن الأولياء يمكنهم المشي على الماء بلا حاجة إلى سفينة.
  • وأن بعضهم يطير في الهواء بمجرد صفاء القلب.
  • وأن الله قد يخرق نواميس الكون للمؤمنين الصالحين، بلا قوانين أو أسباب.

وتحوّل السحر والخارق إلى بديل عن التقنية والعقلانية. ولماذا يصنع المسلم سفينة إذا كان يمكنه، بالإيمان، أن يطوي البحار على قدميه؟
ولماذا يحتاج إلى علوم الملاحة، أو الهندسة، أو الأدوية، إذا كانت البركة واليقين كافيين لتحقيق كل المعجزات؟

 

من العقل العلمي إلى الخيال الأسطوري

بهذا المزج بين نفي السببية وتقديس الخوارق، بدأ العقل الإسلامي ينزلق من عالم الفهم إلى عالم الأسطورة.
وازدهرت الخرافات في ثقافة المسلمين، خصوصًا بعد انحسار الخطر الصليبي، وسادت قصص:

  • الجنّي الطيّار.
  • الزجاجات التي يُحبس فيها العفاريت.
  • الرجال الخارقين الذين لا تُصيبهم الرماح.
  • الحكايات المدهشة التي لا علاقة لها بقانون أو تجربة أو سبب.

وتحوّلت ألف ليلة وليلة من أدب خيالي رمزي إلى مرآة للواقع الذهني، حيث يفكّر الناس بطريقة سحرية، ويتعاملون مع العالم من خلال منطق الأعاجيب، لا منطق العقل أو التجربة.

 

لحظة الاستفاقة: مدافع نابليون

لم يوقظ العالم الإسلامي من هذا "الخيال السعيد" إلا صوت المدافع الأوروبية.
حين دخل نابليون بونابرت القاهرة سنة 1798م، كانت المدافع هي أول درس صاعق في مادية السببية، وفي أنَّ العالم الآخر – الذي نهض على قوانين نيوتن وغاليليو وباسكال، ومن قبلهم ابن الهيثم وابن يونس والبيروني والخوارزمي وأبو البركات البغدادي ...  – أصبح أقوى، لا بالإيمان، بل بالفهم والتجريب والتقنية.

فقد أدرك المسلمون حينها أن العدو لا يمشي على الماء، لكنه يبني سفنًا.
ولا يتوكل على الله بالمعنى المحرف، لكنه يفقه سنن الطبيعة وينتفع بها.

وكانت الصدمة الحضارية عنيفة: إنها ليست صدمة جيوش فحسب، بل صدمة عقلٍ يرى في العلم وسيلة، وفي الطبيعة نظامًا لا فوضى، وفي السببية قاعدة لا بدعة.

 

لقد أسهم إنكار السببية، بصيغته الأشعرية الغزالية، في تعطيل مسار العلم في الإسلام، من خلال:

1.   إضعاف الثقة بقوانين الطبيعة.

2.   إحلال الخوارق محل التقنية.

3.   ترويج ثقافة الكرامات بدل ثقافة الابتكار.

4.   تفكيك العلاقة بين السببية والتجريب.

وانزلق المسلمون، تدريجيًا، من حضارة تقوم على الملاحظة والفهم، إلى خيال يتغذى على العجائب والخرافات. ولم يخرجوا من هذا الخدر إلا تحت قصف المدافع الأوروبية، حين أدركوا متأخرين أن الإيمان لا يعوّض عن غياب العلم، وأن التوكل لا يغني عن العمل والمعرفة والبحث.

لقد كان لإنكار السببية والحكمة، وفق المفهوم الأشعري، والذي أبرزه الغزالي وساهم في شيوعه، مع اقترانه بصور من التصوف، أثره الكارثي على المسلمين، لم يعد ثمة حاجة إلى قوانين يمكن أن تتغير في لحظة بالذات، ما الحاجة إلى اختراع سفن حديثة طالما يستطيع المؤمن الواثق أن يمشي على الماء؟ أو طائرة طالما يمكنه بالتريض أن يطير في الهواء؟ وكيف ينشغل المسلم بالنظر في المخلوقات عن خالقها؟

ازدهرت أساطير ألف ليلة، ودخل المسلمون من بعد انتهاء الحروب الصليبية في عالم خرافي أسطوري سعيد، لم يوقظهم منه إلا وقع أقدام الغزاة الأوروبيين.

 

خاتمة: الغزالي بين التمجيد والنقد

لا شك أن أبا حامد الغزالي من أعظم العقول الإسلامية، ولكن:

عظمته لا تكمن فقط في ما أسّسه، بل في ما هدمه في نفسه.
وأزمته لا تكمن فقط في ما قاومه، بل في ما تركه ليُستخدم بعده ضد كل تجديد.

لقد أعاد الغزالي الروح للدين، لكنه سجنها في مدرسة.
وأدخل التصوف إلى الدولة، لكنه فقد روحه الحرّة.
وحطّم الثقة بالعقل الفلسفي، فأنتج أمة تصلي جيدًا، لكنها لا تفكر جيدًا.

ولذا فهو:

باني النفوس، ومجمّد العقول
رائد النهضة الروحية، وأحد أسباب الركود الحضاري

ومع كل ذلك، فإن التاريخ لا يُختزل في حُكم أخلاقي، بل في فهم شامل لتأثير الرجال. والغزالي، من هذه الزاوية، من أعظم الشخصيات تأثيرًا في التاريخ الإسلامي، ترك أكبر أثر مزدوج: إصلاحًا وركودًا، يقظةً وخدرًا، نهوضًا وسقوطًا.

 

*******

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق