أبو الحسن الأشعري: مهندس العقيدة الرسمية في الدين السني – الرجل الذي صنع القوة... وجمّد التقدم
أبو الحسن الأشعري يحتل مكانة
متقدمة في قائمة أعظم الشخصيات تأثيرًا في تاريخ الإسلام والمسلمين، هذا التأثير
له جوانب إيجابية وجوانب سلبية.
مقدمة: رجل عند مفترق الهُويات
في قلب القرن الثالث الهجري، وبين
أتون الصراع بين المعتزلة وأهل الحديث، ظهر رجل سيُعيد تشكيل التصور العقدي للأمة
الإسلامية لعشرة قرون تالية. هذا الرجل هو أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري
(260هـ – 324هـ / 874 – 936م).
لقد وُلد الأشعري في أحضان
المعتزلة، وتربى على أيدي أعظم منظّريهم: أبي علي الجبائي، لكنه في لحظة فارقة، انقلب على أستاذه
ومذهبه، وخرج على المعتزلة ناقدًا وخصمًا، لا لينتصر لتيار "أهل الحديث"
في صورتهم النقيّة الأولى، بل لينشئ مذهبًا وسطيًا تلفيقيًا يجمع بين العقل
والنقل، بين البرهان والبيان، بين التنزيه العقلي والإثبات النصي.
ذلك المذهب هو ما سُمّي لاحقًا
بـالمذهب الأشعري، الذي تحوّل، مع مرور الزمن، إلى العقيدة الرسمية للعالم السنّي،
وخاصة بعد تبنّيه من قِبل السلاجقة، فصار يُدرّس في المدارس النظامية، وتُبنى عليه
مرجعيات الفقه والعقيدة والتربية.
أولًا: من المعتزلة إلى الأشعرية – تحوّل لا تأسيس
ما يلفت الانتباه أن أبا الحسن
الأشعري لم ينشئ مذهبه ابتداءً من مسلمات قرءانية أو تأصيل عقلاني حرّ، بل أسّسه
كرد فعل مباشر على المعتزلة.
لقد أمضى أربعين سنة من عمره
معتزليًا، ثم ترك المذهب بعد أن استشعر تعارضه مع ظواهر النصوص. لكنه لم يعد إلى
منهج السلف على صورته الأصيلة، بل حاول التوفيق بين الطريقتين:
- أثبت
الصفات الخبرية التي أنكرتها المعتزلة.
- وأوّل
بعضها عندما استعصى عليه التصديق.
- قبل
بالعقل كأداة ضرورية في إثبات العقائد، لكنه قيّده بما لا يتعارض مع النقل.
- في
مسألة أفعال العباد قال بالكسب.
وهكذا، فإن مذهبه لم يكن نتاجًا
لتصور عقدي مستقل، بل كان "هندسة كلامية
مضادة" للمعتزلة، ردًا على أسئلتهم ضمن نفس ساحة اللعب، بنفس الأدوات
المنطقية، لكن بأجوبة مختلفة.
وهذا ما عبّر عنه لاحقًا كثير من
الباحثين بقولهم:
"لو
لم يظهر المعتزلة، لما ظهر الأشعري."
فهو
لم يفتح موضوعات جديدة، بل استجاب لموضوعات المعتزلة، وأدارها في اتجاه مختلف،
بكلمات أخرى بنى مذهبا يرقص على نفس الأنغام التي أحدثها أو أبرزها المعتزلة، ولكن
بطريقة مختلف’
ثانيًا: المذهب الأشعري – عقيدة رد الفعل
ما يميز المذهب الأشعري هو أنه:
- لم
يُبنَ على قاعدة قرءانية تأصيلية مستقلة.
- ولم
يُبنَ على تفكير فلسفي حرّ يفتح آفاقًا جديدة.
- بل
تأسس ليكون مذهبًا وسطًا يردّ على المعتزلة ولا يصطدم كليًا بأهل الحديث، أي
كان المقصد التوفيق بين قولين مختلفين في كل مسألة.
وهذا ما جعله لاحقًا الأكثر
قابلية لأن يُختار كعقيدة رسمية، فهو:
- لا
يُقصي العقل كما فعل أهل الحديث.
- ولا
يُقدّس العقل كما فعل المعتزلة.
- بل
يستخدم العقل بما يكفي للبرهنة، لا بما يكفي للتحرير.
ومن هنا، يمكن القول إن المذهب
الأشعري ليس مذهب تحرّر، بل مذهب تبرير وتوفيق وتلفيق وتسكين.
ثالثًا: التحوّل إلى العقيدة الرسمية – من الأشعري إلى الدولة
ظلّ مذهب الأشعري مجرد مذهب من
بين مذاهب عدّة، حتى تبنّاه نظام الملك، الوزير السلجوقي الكبير، وخصّص له المدارس
النظامية لتدريسه في بغداد وغيرها، بجوار المذهب الشافعي.
ثم تبنّاه لاحقًا:
- الغزالي: الذي بلوره فلسفيًا وروحيًا.
- الرازي
والآمدي: الذين
صقلوه منطقيًا.
- الدولة
الزنكية، والدولة الأيوبية، والسلطنة المصرية المملوكية: التي فرضته كعقيدة الأمة الرسمية.
وهكذا تحوّل مذهب الأشعري من
اجتهاد فردي ردّ فعلي إلى أداة ضبط ديني سياسي ثقافي للأمة الإسلامية.
لكن هذا الانتشار لم يكن بلا
أثمان باهظة.
رابعًا: آثار المذهب الأشعري – من الانضباط إلى الجمود
رغم أن المذهب الأشعري حافظ على
العقيدة من الإفراط الاعتزالي، إلا أنه:
- جعل
العقيدة تخصصًا جدليًا مغلقًا، لا أفق له في التزكية أو الإحياء.
- أقصى
العلوم الطبيعية عن مجال العقيدة، بل لم يتعامل معها أصلًا.
- قضى
نهائيا على أي فرصة للعمل على اكتشاف القوانين والسنن الكونية بإنكار السببية،
وبذلك أيضًا فتح الباب واسعًا للشطحات والتأويل الخرافي.
- قضى
نهائيا على أي فرصة للعمل على أخذ العبر من دراسة التاريخ بإنكار الحكمة في
الأفعال الإلهية.
- حوّل
التوحيد من دعوة حيّة إلى منظومة جدلية.
- فرّغ
النصوص القرءانية من طاقتها التأويلية الحية، بتثبيت عقيدة قائمة على التأويل
المنضبط أو الإثبات الموروث.
كما أنه:
- جعل
علم الكلام فنًّا نخبويًا، لا شعبويًا، لا يُتلقى إلا من المتخصصين.
- عجز
عن التعامل مع قضايا العصر أو الأسئلة الجديدة.
- ركّز
على الصفات والعلو والكلام والرؤية، وأغفل الوظيفة الوجودية للعلوم الإلهية.
لقد خنق المذهب الأشعري الإمكانات
الكامنة في الدين، وحوّله إلى نظام دفاعي، لا مشروع حضاري.
خامسًا: أبو الحسن الأشعري أصل الغزالية
لا يمكن فهم مشروع الغزالي دون
فهم منطلقات الأشعري.
فالغزالي
بنى على ما أسّسه الأشعري، ثم صاغه بمنهج أوسع يشمل التصوف.
لكن
جذر الأزمة في كلا المشروعين واحد: التأسيس على رد
الفعل لا على البيان القرءاني.
وإن كان الغزالي قد أدرك ذلك
لاحقًا، وكتب "إلجام العوام عن علم الكلام"، فإن الأشعري لم يكن قد عبر
تلك العتبة أصلًا، بل أسّس مذهبه ليكون أداة دفاعية لا تحررية.
وهكذا فإن كلّ إيجابيات الغزالي
تعود إلى روحه، وكل سلبياته تعود إلى المذهب الذي ورثه.
فلولا الأشعري، ما كان الغزالي
أشعريًا، ولا كانت الصيغة الغزالية التي أنقذت الأمة في لحظات حالة من التاريخ،
ولكنها جمدت التطور وأدارت الأمة في دائرة من الجدل المغلق.
سادسًا: الأشعرية الحديثة – امتداد مؤسسة لا مشروع
المؤسسات الدينية في العالم
الإسلامي ما زالت تتبنى المذهب الأشعري بوصفه:
- العقيدة
الوسطية.
- العقيدة
الرسمية.
- العقيدة
المحمية من الإفراط.
لكنها – في الحقيقة – تتبنى:
- نظامًا
تعليميًا مغلقًا.
- وتصورًا
جامدًا عن التوحيد.
- وخصومةً
مع التجديد العقلي والفلسفي.
فمن رحم هذا المذهب:
- نشأت
المدارس التي تُجرّم الفلسفة.
- وتُقصي
العلوم الطبيعية من الشرع.
- وتُحرّم
التأويل الحداثي للنصوص.
- وتتصدى
لأي تطوير أو تجديد أو تحديث
- وتتصدى
لمشاريع النهضة والتقدم.
وهذا ليس عيبًا في الأشخاص، بل في
المذهب ذاته، الذي صيغ ردًّا على المعتزلة، لا تأسيسًا على القرءان.
خاتمة: أبو الحسن الأشعري – باني السلطة الكلامية، لا مشروع النهضة
لا شك أن أبا الحسن الأشعري من
أعظم العقول النظامية التي مرّت في تاريخ الإسلام، وقد غيّر مسار الفكر العقدي
السني بصورة حاسمة. لكن:
أسّس نظامًا دفاعيًا لا نظامًا
إبداعيًا
أنشأ
أكثر المذاهب قابلية للتوظيف السياسي
ترك
أثرًا أعمق من أي متكلم، وأوسع انتشارًا من أي متفلسف
فهو:
- الأب
المؤسس للعقيدة الرسمية السنية.
- والمهندس
الأول لصيغة الدولة والدين في الإسلام الوسيط.
- والأصل
الجذري للأشعرية والغزالية والجمود العقدي المدرسي.
لقد صنع أبو الحسن الأشعري قوةً
حافظت على بقاء الأمة، لكنها أيضًا جمدت العقل، وأقصت التزكية القرءانية، وعطّلت
انبعاث التجديد.
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق