الثلاثاء، 8 يوليو 2025

الإمام الشافعي: من تأسيس الفقه إلى صناعة الجمود – أثره البنيوي في تشكيل الإسلام التاريخي

الإمام الشافعي: من تأسيس الفقه إلى صناعة الجمود – أثره البنيوي في تشكيل الإسلام التاريخي

مقدمة: مهندس الإسلام القانوني

من بين أبرز العقول المؤسسة في تاريخ الإسلام، يبرز الإمام محمد بن إدريس الشافعي (150هـ – 204هـ) بوصفه العقل القانوني الأول للإسلام السني.
فقد كان أول من وضع نظرية متكاملة لمصادر التشريع الإسلامي، مؤسسًا بذلك لعلم "أصول الفقه"، ومرسخًا لسلطة المرويات، ومقننًا العلاقة بين النص والعقل.

غير أن هذا الإنجاز الضخم حمل معه مفارقة كبرى:

فبينما وضع الشافعي اللبنات المنهجية لبناء الفقه، كان في الوقت نفسه يؤسس لصيغة جامدة شكلانية من الدين، تُقصي الوجدان والعقل، تتحدث فقط عن الأمور الظاهرة المنضبطة، وتُفرّغ العبادات من بعدها التزكوي، وتُحول الرسالة من مشروع قيمي إلى مدونة قانونية لإدارة أمور الأفراد.

فالنظام الذي وضعه، والذي أبدى فيه حرصًا شديدًا على النص والتقنين والانضباط، قد أسهم أيضًا في إغلاق الدين على نفسه، وتحويله من حركة روحية أخلاقية إلى منظومة قانونية سلطوية.

 

أولًا: تأسيس مصادر التشريع – عقل ينظّم لا يبدع

لقد نظم الشافعي مصادر الشريعة في ترتيب هرمي صارم:

1.   القرءان: بوصفه الأصل الأول.

2.   السنة: أقوال وأفعال وتقريرات الرسول فقط، واعتبرها وحيًا ثانيًا.

3.   الإجماع: أي اتفاق العلماء المسلمين.

4.   القياس: كملحق محدود، عند غياب النص.

ورفض الشافعي الاستحسان الذي اعتبره ضربًا من التشريع البشري، رافعًا شعار:

"من استحسن فقد شرّع."

بهذا الترتيب، كان الشافعي هو أول من حول الإسلام إلى نظام تشريعي مستقل متكامل، لا مجرد ميراث روحي أو عرف مجتمعي.

 

ثانيًا: السنة بوصفها وحيًا – تحوّل جذري في المفهوم

قبل الشافعي، كانت "السنة" مصطلحًا مرنًا يشمل:

  • أقوال الصحابة.
  • عادات المجتمع.
  • سنة المدينة أو أهل الكوفة.

لكن الشافعي:

  • حصر السنة في ما نُسب إلى النبي فقط.
  • واعتبرها مساوية للقرءان في الحجية.
  • وأوجب اتباعها حتى لو لم تُذكر في القرءان.

وبهذا التأسيس غيّر مفهوم "الوحي" ذاته، فأدخل فيه المرويات المنقولة، وفتح الباب أمام جمع المرويات وتدوينها ونقدها، وهو ما سيتحول لاحقًا إلى علم الحديث المعروف.

لكن اعتبار (السنة) وحيا يوحى مثل القرءان سيخلق إشكاليات تأويلية هائلة، إذ بدأ تفسير القرءان في ضوء الروايات، لا العكس، واعتُبر ظاهر القرءان محكومًا بمرويات ظنية، تختلف فيما بينها في درجة الظنية.

 

الشافعي وبداية علم الحديث – إنتاج شرعية جديدة

لم يكن للحديث تلك المكانة قبل الشافعي، حتى أن أبا حنيفة لم يعتبر الأحاديث من مصادر التشريع إلا نادرًا، وكان يحتكم كثيرًا إلى الرأي والقياس، وكان مالك يعتمد على حديث الصحابة وأهل المدينة أكثر من الأحاديث النبوية.

لكن الشافعي:

  • أعاد الاعتبار للأحاديث.
  • جعلها المصدر الثاني بعد القرءان.
  • فتح الباب أمام جمع المرويات وتدوينها وتمحيصها.

فكان الشرارة التي أيقظت المشروع الحديثي، فظهر بعده:

  • أحمد بن حنبل.
  • البخاري ومسلم.
  • النسائي والترمذي وأبو داود.

بل يمكن القول:

"لولا الشافعي، لما نشأ علم الحديث على صورته المؤسسية، ولظل الحديث متفرقًا بين الآثار والفتاوى والأخبار."

 

ثالثًا: المفارقة الكبرى – رفض نسخ القرءان بالسنة... ثم قبوله قبولا صريحا

من مآثر الشافعي أنه رفض القول بأن السنة تنسخ القرءان، وكان أكثر الفقهاء تحفظًا في ذلك، بخلاف أبي حنيفة ومالك.

لكنه – هو ومدرستهأخذوا لاحقًا بأحكام من السنة تعارض آيات محكمة، منها:

  • قتل المرتد رغم غياب نص قرءاني يأمر بذلك.
  • استتابة وقتل تارك الصلاة، رغم غياب نص قرءاني يأمر بذلك
  • الطلاق الشفهي ووقوع الثلاث بلفظ واحد، رغم تعارض ذلك مع القرءان تعارضًا صريحا.
  • أحكام الميراث التراتبي (العصبة)، رغم تعارض ذلك مع القرءان تعارضًا صريحا..

وهكذا، وقع المذهب الشافعي في التناقض البنيوي:

  • رفض نظريًا أن تنسخ السنة القرءان.
  • لكنه قبل عمليًا أن تُخصصه أو تُقيده أو تُحكم عليه بما يُنسب إلى الرسول، حتى لو كان من أخبار الآحاد.

وقد اعتبر بعض علماء المذهب رفضه القول بأن السنة تنسخ القرءان "كبوة فارس"، و "سقطة من سقطات الأكابر"، لأن التأسيس النظري لا ينسجم مع الممارسة الفقهية.

 

رابعًا: مواجهة الاعتزال – بناء سدّ ضد العقل الفلسفي

كان الشافعي من أوائل من واجهوا المعتزلة، وشجبوا استخدامهم للفلسفة والمنطق اليوناني في العقيدة.

  • رأى أن العقل ليس مصدرًا للتشريع أو العقيدة.
  • وأن ما لم يرد في النص لا يُقبل بالعقل وحده.
  • واعتبر أن استخدام الجدل والكلام تفريط في الدين واتباع للهوى.

ورغم أن الأشعرية ستظهر لاحقًا كحركة وسطية بين المعتزلة وأهل الحديث، وسينسب أكثرهم نفسه إلى الشافعي، فإن الشافعي لو عاش زمنهم لعاداهم كما عادى المعتزلة، لأن مبدأهم الكلامي يخالف منطقه الأصولي.

وهكذا أسهم الشافعي في:

  • تحجيم العقل التأويلي.
  • غلق الباب على التجديد العقلي الفلسفي.
  • تكريس النقل والتسليم بدل النظر والتحليل.

 

خامسًا: الشافعي وبناء الدين القانوني الشكلاني

وهنا تبرز أخطر النتائج التي ترتبت على عمل الشافعي:

 

الدين كمدونة أحكام لإدارة الرعية

تحوّل الإسلام إلى نظام قانوني مفصّل يُضبط به سلوك الأفراد، دون نظر إلى وظيفة الحاكم أو أمانة السلطة.
فلم يكن يُسأل: "هل الحاكم عادل؟" بل: "هل طلاق هذا الرجل صحيح؟".

 

العبادة كفعل شكلي منضبط لا كتزكية

ركّز الشافعي على: أمورٍ مثل

  • أحكام المياه
  • أنواع النجاسات والمبطلات.
  • عدد الركعات.
  • أركان الصلاة وهيئاتها.
  • مفسدات الصيام
  • صلوات المناسبات المختلفة

وتُرك البُعد الروحي – التزكوي – بلا تأصيل.

 

تجاهل البُعد الوجداني

تم تجاهل الأمور الوجدانية الجوهرية مثل التوبة، والإنابة، وحب الله وتقوى الله ... الخ

كان ذلك بحجة أن هذه أمور غير منضبطة، أو أنها لا تدخل في نطاق عمل (الفقه)، والحق أنهم هم الذين أساؤوا استعمال هذا المصطلح وحرفوا معناه، الفقه عندهم لا يعني إلا ضبط الأحكام والعبادات العملية!

فصار الدين بذلك آلة ضبط لا مشروع تحوّل إنساني.

 

تجاهل العمل بالأوامر التي هي خارج النطاق القانوني السطحي

بسبب تحريف وسوء استعمال المصطلحات الدينية تم تجاهل أوامرَ دينية كبرى، منها:

1.   ذكر الله، وذلك يتضمن الذكر بالأسماء الحسنى والتسبيح والحمد والتسبيح بالحمد.

2.   العمل على إقامة صلة وثيقة بالله تعالى وعلاقة حميمة معه سبحانه ودعمها وترسيخها

3.   استعمال الملكات الذهنية والحواس الإنسانية للنظر في الآيات القرءانية والكونية والنفسية وفي عواقب الأمم السابقة ولفقه واستيعاب السنن الإلهية والكونية والإفادة منها ولتحقيق المقاصد الدينية

 

تهميش العقل والاجتهاد

رفض الشافعي الاستحسان، وقيد القياس، ومنع العقل من التمدد خارج النص.
وهكذا جُمّد العقل في خدمة النصوص الموروثة، ولو كانت ظنية أو متعارضة مع المقاصد.

 

ولكن الحقيقة أن الشافعي كان يتحرك في إطار شكل الدين كما بينه مالك بن أنس من قبله بأمر الطاغية العباسي أبي جعفر المنصور.

 

خاتمة: الإمام الشافعي – الباني العظيم... والمجمد الخطير

لا ريب أن الشافعي:

  • أسّس علمًا مهما في الإسلام (أصول الفقه).
  • وأرسى تصورًا دقيقًا لمصادر الشريعة.
  • وأحدث ثورة منهجية في فهم النص.

لكنه أيضًا:

  • أدخل الدين في قمقم الشكليات.
  • وجعل السنة مظلة تُفسر بها الآيات وتُخصّص وتُقيّد.
  • وأقصى العقل والوجدان من الصياغة الدينية.
  • وحوّل الخطاب القرءاني إلى قانون تفصيلي لإدارة شؤون وأفعال وحركات الأفراد، بدلًا من أن يكون دعوة إلى الحق والحرية والعدل والنهضة.

لقد كان الإمام الشافعي من أعظم صانعي الإسلام التاريخي، ومن أعظم المؤثرين فيه إيجابيا وسلبيا، سيكون مذهبه أحد الأركان الثلاثة للصيغة الغزالية التي ستنجح في الدفاع عن قلب العالم الإسلامي، وهي "عقيدة أشعرية، فقه شافعي، تصوف سني".

لكنه كان كذلك من أشد من قيدوا الإسلام التاريخي داخل بنية جامدة لا تزال سارية إلى اليوم.

 

*******

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق