السبت، 5 يوليو 2025

الشيطان المريد: معاوية ويزيد

 الشيطان المريد: معاوية ويزيد

قراءة تحليليّة في انهيار المشروع النبوي وقيام الملك العضوض

معاوية ويزيد هما في الحقيقة وجهان لشيطان واحد، يزيد هو الصورة الفجّة لمعاوية، المجردة من التهذيب الشكلي والحلم المصطنع. هو من أكمل المشروع الشيطاني لأبيه ووصله إلى ذروته، إلى الحدّ الذي لم يعد معه المشروع في حاجة إلى مزيد من القمع المجنون، إذ اكتمل التحول وانتهت مرحلة مقاومة الروح النبوية، لم يعد الناس يُرهبون ليُمنعوا عن دين الله، لأن الأمة الخيّرة التي بُعثت لتحقيق مقاصد الدين على مستوى الأمم قد تهاوت، وتحول مشروع الخلافة إلى ملك أسريّ تقليديّ، تملك فيه أسرة واحدة الأرض ومن عليها، وتتوسّع على حساب من جاورها، باسم الإسلام تارة، وباسم القومية القرشية تارة أخرى.

لكن هذا الانهيار لم يكن وليد لحظة، بل سبقه تمهيد مدروس ومركّب. فقد ربّى الرسول ﷺ أمة مؤمنة، مستعدة لحمل الأمانة، متجردة من الأطماع، وكان لها في قلوب الناس قداسة ومهابة، هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وكانت العترة النبوية قلبها وروحها. ترك لهم كتاب الله، وأعلن أن من تمسك به لن يضل، وأكد أن الكتاب لن يفترق عن العترة، في إشارة إلى أن التأويل الحقيقي للقرءان لن يكون مع من خرج عليهم.

 

التمهيد الأول: الدولة القرشية تحت غطاء الشورى

كان التمهيد الأول من أبي بكر وعمر، ولم يكن لغيرهما أن يفعله، فهما المؤسسان الفعليان لنظام الدولة القرشية، حين وجّها ضربة قاصمة لفكرة الأمة الحاملة للرسالة، ورفضا تسليم القيادة لأهل البيت، مع علمهم بأحقيتهم، كما أقر بذلك معاوية لاحقًا، في رسالته المشهورة إلى ابن أبي بكر:

"قد كنا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب وحَقه لازما لنا مبرورا علينا، فلما قبض الله نبيه صلوات الله عليه، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه، وخالفه على أمره... فأبوك مهّد مهاده، وبنى لملكه وساده، فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك استبدّ به ونحن شركاؤه، ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب".

هذه الشهادة التاريخية من معاوية تكشف أن ما بناه لم يكن انحرافًا فجائيًا، بل امتدادٌ لما أرساه سلفه، لكن بشكل أكثر صراحة ووحشية.

 

التمهيد الثاني: عثمان، الانزلاق الناعم نحو الحكم الأموي

عثمان لم يكن شريرًا بطبعه، لكنه فتح الباب لبني أمية، وسلّم الدولة لهم عمليًا، فكانت كل قراراته تصب في اتجاه تمكينهم، كان معاوية هو الذي يدير الأمور من وراء ستار عثمان المغلوب على أمره.

كانت أفعال عثمان تمهيدًا للتسلط الأموي، ولكن كان فيه بقية من خير تجعله، مثل أبي بكر وعمر من قبله، يعيش ألوانًا من الصراع النفسي الحادّ، كانوا جميعًا أشبه بماكبث في رواية شكسبير التراجيدية.

 

التمهيد الثالث: قادة الجمل – معركة ضد العدالة باسم الثأر

أما المأساة العظمى فكانت على يد ثالوث الجمل: السيدة عائشة، وطلحة، والزبير. فهؤلاء، رغم بيعة طلحة والزبير للإمام علي، خرجوا عليه بدعوى الأخذ بثأر عثمان، في حين كانوا من المحرّضين عليه. الجيش الذي جمعوه كان أول جيش "إسلامي" يغزو مدينة إسلامية، ثم يرتكب فيها مذبحة، ثم يشن حربًا طاحنة ضد جيش إمام الأمة. قُتل فيها الآلاف، كثير منهم كانوا يقاتلون إجلالا لمكانة السيدة عائشة. وكان من البديهي أن تُحدث المعركة ثارات طويلة الأمد، تُمزق الأمة.

وهكذا، وبهذا الثالوث، تم توظيف الثقل الرمزي ضد المشروع النبوي، ليجد معاوية الطريق ممهدًا، ويعلن الحرب على دين الحقّ وأهله، مستعينًا بما أسسه خلال ولايته الطويلة على الشام، حيث شكّل هناك نواة دولة مستقلة، ذات جهاز إداري وولاء عسكري، متحالفة مع بقايا الدولة البيزنطية، وأحبار أهل الكتاب، وأعراب الصحراء الباحثين عن الغنائم.

 

الجزء الثاني

معاوية لم يتورع عن استخدام كل أدوات القمع والترهيب للحفاظ على سلطانه. لم يكن يخجل من إعلان نواياه، بل قالها صراحة:

"قاتلتكم لأتأمر عليكم".

ولما طالبته ابنة عثمان بالثأر لأبيها، أجابها:

"إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانًا، وأظهرنا لهم حلمًا تحته غضب، وأظهروا لنا ذلّا تحته حقد... ولأن تكوني ابنة عمّ أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس".

أي إنه اعترف بمخادعة الناس باسم الحلم، وبالسكوت عن القصاص حفاظًا على الملك، وهذا جوهر مشروعه: الحفاظ على السلطة، لا على الدين.

وقد عبّر عن غيظه المكتوم من بقاء ذكر الرسول حيًّا إلى اليوم، فقال للمغيرة بن شعبة:

"إن ابن أبي كبشة ليُصاح به كل يوم خمس مرات... فأي عمل يبقى وأي ذكر يدوم بعد هذا؟... لا والله، إلاّ دفنًا دفنًا!"

بهذا التصريح العاري من التقية، يعلن معاوية أن نبي الله عقبة أمام مشروعه، وأن الذكر النبوي يجب دفنه... لا لفظًا، بل فعلا، من خلال تغيير جوهر الدين وتحويله إلى أداة طيّعة للسلطة.

 

يزيد: الصورة الأصلية للشيطان

ثم جاء يزيد، من دون أقنعة. كان مجرمًا ساديًا، قضى على فرع من العترة النبوية في كربلاء، وعلى الأنصار في الحرة، وكاد يقضي على مكة، لولا أن أدركه الهلاك. كانت كارثته مركّبة: مجازر وحشية، ونسف لبنية المجتمع النبوي في المدينة ومكة، وعقيدة فاسدة تبرر الجرائم بالسلطة.

أما ابن الزبير، الذي ظهر كأملٍ في استعادة شيء من كرامة العرب، فقد اختار أن ينافس الأمويين بلغتهم: مشروع قريشي لا نبوي، فصار أمله سياسيًا أكثر منه رساليًا.

 

الدولة المروانية: تثبيت الانحراف باسم "الاستقرار"

آل مروان ورثوا ما بناه معاوية، لكنهم لم يسيروا على طريق الإرهاب الفج. بل استخدموا المال، وبنوا إمبراطورية توسعية، قرروا، مثلًا، قرر إغراق أهل مكة والمدينة بالأموال، لتحييدهم دينيًا، وتحويلهما إلى "لاس فيجاس" دنيوية، بحسب تعبير معاصر، تسكنها الطقوس ومظاهر الترف، لا الرسالة.

النتيجة النهائية: موت المشروع النبوي وولادة الدين الممسوخ

وهكذا، تحقق حلم معاوية:

  • إقامة إمبراطورية أسرية باسم الدين
  • قتل روح الإسلام في مقاصده الكلية
  • واستدعاء أحبار اليهود ورجال الدولة البيزنطية لصياغة دين رسمي:

1.   يعبد السلطان

2.   يبرر الجبر والظلم

3.   لا مكان فيه لشيءٍ من مقاصد الدين، وروحه، وسننه، وجوهره وعقله.

 

خاتمة

لقد كان معاوية هو الشيطان المؤسس، الذي عبث بهدوء واقتدار، وبالبطش والإرهاب، ثم سلّم الشعلة ليزيد، ليحرق الأخضر واليابس. ومعهما، وُئدت آخر آمال الأمة في قيادة العالم بالحق، وبدأ عصر من الزيف الديني والسياسي، ما زالت آثاره تنهش جسد الأمة حتى اليوم.

وهكذا كان تأثير الشيطان المريد معاوية: إنشاء إمبراطورية أسرية دنيوية تقليدية، والقضاء على أي إمكانية لعودة الإسلام إلى قيادة الأمور الكبرى.

ولحساب معاوية تولى أحبار اليهود وأركان الدولة البيزنطية العميقة صياغة دين جديد، الدين الأعرابي الأموي العتيد، الذي سيكون عند الناس هو الإسلام الأرثودوكسي، هذا الدين حلّ محل الإسلام، وانتحل اسمه، وهو لا يأخذ منه إلا القشور والأحكام الجزئية الملزمة للرعية، ويخلو من منظومة قيمه وأموره الكبرى والوجدانية والعقلانية، ويتسم بالجبرية المحضة ويعطي للمتسلط على الأمر سلطات إلهية.

*******

هناك تعليق واحد: