من تفاصيل ركن إقامة صلة وثيقة بالله
التعريف بالركن
ركن "إقامة صلة وثيقة
بالله" هو من أركان الدين الجوهرية، وهو أساس الدين ولبّ الغاية من الخلق،
ومبدأ كل تزكية حقيقية، والشرط اللازم لتحقيق مقاصد الدين العظمى، فلا يمكن أن
تُبنى نفسٌ إنسانية على التقوى والمعنى، ولا أن تُستأنف حضارةٌ راشدة، من دون أن
تكون الصلة بالله حيّة، واعية، متجدّدة.
وهذه الصلة ليست مجرّد اعتقاد
نظري، ولا طقس تعبّدي جامد، بل هي حالة وجودية دائمة، يتصل فيها الكيان الإنساني
بنور الله، ويتفاعل مع حضوره، ويستقي من أسمائه وصفاته، حبًّا وخشيةً وتعظيمًا
وتوكّلًا. فهي وشيجة روحية، وسيرٌ قلبي، ومناجاة عقلٍ وقلبٍ وجوارح، في كل لحظة،
وعلى كل حال.
دلالات الركن ومقاصده
أ. التوحيد
التفاعلي
لا يُطلب من الإنسان أن يؤمن
بوجود الله فقط، بل أن يُوحّده توحيدًا تفاعليًا، يجعل الله غايته ومبتغاه، ومولاه
في الشدة والرخاء، وأنيسه في الخلوة والجلوة. وهذا التوحيد يتجاوز مجرد الإقرار
العقلي، إلى تَشرُّب القلب بحقيقة "لا إله إلا الله" حتى تصير ميزانًا
حاكمًا على الإرادة والسلوك.
ب. الأنس
بالله والانجذاب إليه
في فطرة الإنسان حنينٌ دفين إلى
خالقه، وظمأٌ سرمدي إلى القرب منه. وكلّ ما في الدنيا من حبٍّ وجمالٍ وذوقٍ ومعنى،
ما هو إلا انعكاسٌ ناقص لأسماء الله وصفاته. فكلّما قويت الصلة بالله، زاد الأنس،
وانجلى الوحشة، وارتوى القلب بعد عطش.
ت. التزكية
والانقياد
الصلة بالله هي محرّك التزكية،
ومصدر الإخلاص، والضامن الوحيد لاستقامة النفس. فمن اتصل بالله، صغرت الدنيا في
عينه، وسهل عليه مجاهدة شهواته، وتيسّر عليه اتّباع أمر الله، طواعيةً لا قسرًا.
مراتب الصلة بالله
1.
الصلة الوجودية
الفطرية
هي الأساس الذي لا ينفكّ عن
الإنسان، ما دام حيًّا. فالله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، يعلم سرّه وجهره،
ويشهد عليه، ويحاوره من حيث لا يدري. وهذه الصلة لا تحتاج إلى إثبات، بل إلى وعي
وحضور.
2.
الصلة
الاختيارية الإيمانية
وهي الركن المقصود بالأمر
والتكليف، الذي يُحاسب الإنسان على إقامته. ويُبنى على فعل القلب من حبّ وخوف
ورجاء، وعلى فعل الجوارح من عبادة وذكر ودعاء، وعلى فعل العقل من تدبّر وتفكّر
وتوحيد.
3.
الصلة الإحسانية
العالية
وهي مقام "أن تعبد الله كأنك
تراه"، حيث تبلغ النفس ذروة القرب، وتصفو مرآتها لتتلقّى عن الله إشراقًا
وفهمًا وسكينة، وتمتلئ بمعاني المحبة والتعظيم والتسليم، وتعيش في حضور دائم.
موانع تحقق الصلة بالله
رغم أنّ الصلة بالله أمر مغروس في
بنية الإنسان، إلا أنّها قد تُحجَب أو تتعطّل بفعل موانع وجودية وأخلاقية، تشوّش
استجابة الأنـية للنداء الإلهي، وتحجب أنوار الأسماء عن القلب والنفس. وهذه
الموانع تتجلّى في صورتين متكاملتين: الأولى تتعلق
بالآثام المضادة لهذا الركن، والثانية تتعلّق بالعوائق النفسية والمعرفية
والسلوكية التي تُضعف التوجّه إلى الله.
الآثام المضادة لركن إقامة صلة وثيقة بالله
هذه الآثام لا تمثّل مجرد خطايا
سلوكية، بل هي اعتداء على جوهر الصلة بالله، وإفساد لمقوّمات الإيمان التفاعلي
الذي يربط الكيان الإنساني بالأسماء الحسنى. وأبرز هذه الآثام:
- الشرك
بجميع أنواعه: سواء أكان
شركًا جليًا في الاعتقاد، أو خفيًا في التعلّق القلبي، فإنّه يُناقض توحيد
الوجهة إلى الله، ويفسد شرط الانكسار والتفويض، ويُحجب القلب عن استقبال نور
الأسماء.
- الغفلة
عن ذكر الله: وهي طمسٌ
تدريجيّ لحضور الله في الكيان، تجعل القلب أرضًا باردة لا تصلها تجليات
الأسماء، وتحوّل الدين إلى عادة جوفاء، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ
عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ
فُرُطًا} [الكهف:28]، {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي
نَفْسِكَ تَضَرُّعا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ
وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِين} [سورة الأعراف: 205]
- الإلحاد
في أسماء الله: وهو انحراف
في التصوّر أو التأويل أو التسمية، بأن يُنكَر بعض الأسماء، أو تُحمل على
معانٍ لا تليق بجلاله، وهو يُفسد التفاعل الصحيح مع الله، ويشوّه بوصلة
الإنسان الروحية، قال الله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى
فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ
سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [سورة الأعراف: 180]
- الجهل
أو التجاهل لبعض الأسماء والسمات الإلهية: كأن يُقتصر
في العلاقة مع الله على صفات الجبروت دون الرحمة، أو على الغضب دون الودّ والحُب،
فيتولّد عن ذلك انحراف وجداني، وتشويه في بنية الصلة.
- الكفر
ببعض الأسماء أو الصفات الإلهية: وهذا من
أعظم الموانع، لأنه رفضٌ لما أراده الله من تعريف ذاته لعباده، وإبطال لأثر
تلك الأسماء في التزكية والعبودية والتوكّل.
- إيثار
الحياة الدنيا: وهو تفضيل
العاجل على الآجل، والمادة على المعنى، والدنيا على الله، فكلما تعاظم
التعلّق بالدنيا، ضعفت استجابة الكيان لأنوار الغيب، وخبت جذوة الصلة.
ورحمة بعباده ذكَّرهم الله تعالى
بالحقيقة العظمى، والتي جرت على ألسنة السحرة، وهم يتحدون فرعون من بعد أن هددهم
بالعذاب الأليم:
{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى
مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ
إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا
لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)} طه
الموانع النفسية
والمعرفية والسلوكية
- الأنانية
المفرطة: حين تكون
الذات مرجعية مطلقة، تفسد العبودية، وينغلق القلب أمام مقام الربوبية، ويضعف
معنى التفويض.
- الكِبر
والتعالي: وهو من
أعظم حجب الصلة، لأنه يناقض جوهر الخضوع، ويمنع الانكسار، ويجعل الإنسان في
خصام داخلي مع الحق.
- التصوّر
المشوّه عن الله: كأن
يُتصوّر الله ككيان منتقم دائمًا، أو كوجود بعيد لا يُرجى قربه، فتغيب مشاعر
المحبة والأنس، وتُفسد العلاقة.
- الجمود
العقلي والشك المنهجي: حين تختزل
العلاقة بالله في تصوّرات ميكانيكية، بلا حياة ولا ذوق، أو حين يُساءل الغيب
بمعايير الحسّ، تضيع السكينة، ويغيب المعنى.
- الخطاب
الديني المنفّر: إذا صار
الدين وعظًا قاسيًا، بلا حبّ ولا أمل، نفر القلب من الذكر، وفقد الناس الطريق
إلى الله.
- الضغوط
المجتمعية والبيئة المنحرفة: حين تُهزّأ
الصلة بالله، أو تُحارب في الواقع، تتراكم الغفلة، ويضعف الوازع.
وبناءً على ذلك، فإنّ إزالة هذه
الموانع هو أوّل مسلك لتحقّق الصلة، وهي البداية الحقيقية للسير إلى الله. فكما لا
تستقبل المرآةُ النور إلا إذا صُقلت، كذلك لا تستقبل النفس أنوار الأسماء إلا إذا
زُكّيت وأُزيل عنها الغبار.
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق