السبت، 19 أبريل 2014

الاستقامة والصراط المستقيم

الاستقامة والصراط المستقيم

إن الاستقامة هي من أركان منظومة القيم الإسلامية، فهي من الأخلاق التي يقتضي ركن التزكي العمل على اكتسابها والتطهر مما يناقضها، وهي مقتضى الحرص علي اتباع الصراط المستقيم -صراط الله تعالى- والاعتصام به واجتناب ما هو من دونه من السبل، والصراط المستقيم يتضمن كل مقتضيات منظومة أسماء الهدى والإرشاد، فهو يتضمن كل ما يوثق صلة الإنسان بربه، أي كل ما يؤدي إلى تحقيق مقاصد الدين، هذا الصراط هو دين الحق بكل أركانه وسننه، وهو صراط واحد، لا مجال فيه للاختلاف، والاستقامة هي سبيل الإنسان الوحيد لكي ينجو بنفسه ويفلح ويحقق كماله المنشود في الدنيا والآخرة؛ أي يحقق مقاصد الدين العظمى، فالاستقامة تعني الحرص على اتباع الصراط المستقيم.
ومن أكبر مظاهر الاستقامة أن يكون الإنسان معتصماً بربه: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} آل عمران101، والاعتصام بكتاب الله الذي هو حبل الله هو عين الاعتصام بالله.
وبالاستقامة يتحقق للإنسان المقصد الديني الأعظم الخاص بالفرد، وهو أن يكون إنسانا ربانيا فائقا (صالحا مفلحا محسنا شاكر) يحظى بتأييد الملأ الأعلى ويحيا في أمن وسعادة وفرح دائم متجدد: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} فصلت30، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الأحقاف13.

فالاستقامة هي السير على الصراط المستقيم، والصراط المستقيم بالنسبة للإنسان بكل كِياناته هو ما يناظر على المستوى الحياتي والجوهري ما يسمَّى في العالم المادي (Geodesic line) أي المسار الذي يجب أن تسلكه الأجسام المادية في الزمكان تحت تأثير الكتل المادية الكبرى، ففي النظام الشمسي تلعب الشمس الدور الأكبر في تحديد تلك المسارات في مناطق نفوذها المحيطة بها، وعلى الكتلِ المادية الأصغر منها أن تلتزم بتلك المسارات، ولو فُرِض أن لدى كوكب الأرض مثلا بكل ما عليه ككِيانٍ واحد الحريةَ والاختيار لكان عليه أن يسلك هذا المسار المقرر والمقدَّر لصالح  بقائه وبقاء كل ما ارتبط به مصيرُه، فالصِّرَاط الْمُسْتَقِيم هو بالنسبة للإنسان المسار الأمثل الذي يجب أن يسلكه ليضمن لنفسه البقاء وتحقيق مقاصده، وهو يهتدي إليه بنور ربه.
فبالنسبة للإنسان ككيان مادي لا بد له من سلوكٍ معين للإبقاء على جسده والحفاظ عليه، ولابد لكيانه الجوهري الباطني من مسارٍ يؤدي إلى الحفاظ عليه وإلى تحققه بكماله المنشود، وتلك المسارات إنما حددتها وعينتها الشمسُ الحقيقية لعالم الكائنات المخيرة؛ ألا وهي شمسُ الألوهية، ولكل إنسان  مسارُه الخاصُّ به، فكل تلك المسارات قد قدرها وقررها الله سبحانه، فهو الذي قدر المسارَ الكلي العام الذي يتفرع إلى مسارات فرعية بقدر عدد بني الإنسان، وعلى الإنسان أن يسلك هذا الطريق بمحض اختياره، ولكن لما كان الإنسان ذا إرادة واختيار فإن له أيضا أن يتنكبه، ولكن ذلك سيكون على حساب مصيره ومستقبله، ولابد للإنسان من  معرفة بهذا الطريق، وتلك الحاجة مستمرة ودائمة، ذلك لأنه لابد في كل لحظة وموقف يتعرض له الإنسان من اختيارٍ أمثل يجب عليه معرفته والتمسك به، لذلك أُمر بطلب الهداية إلى الصراط المستقيم ممن قدَّره وممن له الإحاطة التامة به، فمن سار على صراطه المستقيم هو في الحقيقة يسعى ويكدح إلى ربه، وهو بفضله سيجده.

والصراط المستقيم هو عين الاعتصام بالله وبحبله المتين، ولكل إنسان من حيث أنه مريد ومختار صراطٌ عام، ولكن هذا الصراط قد يتفرع إلى فروع عديدة في نقاط معينة وكلها ستؤدي به إلى ما يريد ولن تجعله ينحرف عن الصراط العام، وتلك الفروع هي الأمور الشكلية أو ظاهريات العبادة، فكلها تمثل حلولا ممكنة لنفس المسالة لتحقيق المراد من النتائج.

ولما كان القرءان هو المرجع الأوحد لمعرفة المصطلحات الدينية فإنه يجب الرجوع إليه لمعرفة المقصود بالصراط المستقيم، كما يجب أن تؤخذ في الاعتبار كل الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح، قال تعالى:
قال تعالى:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) } الفاتحة، {قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} البقرة142  *  {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} البقرة * {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)} آل عمران، {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} آل عمران *  {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً{66}  وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً{67} وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً{68}النساء  *  {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }النساء175  *  {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ{15} يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{16} المائدة  *  {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} الأنعام * {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} الأنعام * {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)} الأنعام *  {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }الأنعام153 * {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)} الأنعام * {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)} الأعراف * {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يونس25  *  {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} هود * {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هود112 * {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)} النحل {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } مريم36  *  {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) } الزخرف * {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}الزخرف64  *

وتوضح كل هذه الآيات المقصود بالصراط المستقيم فهو الطريق الآمن الموصل إلى الله تعالى، وهو يتضمن العبادة بمفهوميها العام والخاص، والاعتصام بالله تعالى هو عين الاهتداء إلى الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، ومن يعقد العزم على الالتزام به وتوكل على الله تعالى سيجده.
والإنسان في تقلبات حياته المختلفة وفي كل موقف يواجهه ويجد أن أمامه عدة بدائل فإن ثمة اختيار منها هو الاختيار الأمثل، فهذا الاختيار هو الصراط المستقيم الذي يحقق له المقصد الخاص به، وهو لا يعلمه بالضرورة، ويجب أن يعول على ربه لمعرفته، فالاهتداء إلى الصراط المستقيم هو نعمة كبرى، ولذلك أُمر الإنسان بأن يطلب الاهتداء إلى الصراط المستقيم كلما أقام الصلاة لا يعلم بالضرورة الصراط المستقيم.
والاهتداء إلى الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم والالتزام به أمر محكوم بقوانين الله وسننه، فيجب أن يبذل الإنسان بمحض إرادته واختياره كل ما في وسعه للاهتداء إليه.
وكل الناس بما فيهم الأنبياء بحاجة ماسة إلى أن يهديهم ربهم الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
والصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هو الإسلام؛ دين الحق الذي يشرح الله تعالى به صدور من هداهم إليه.
والصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هو الصراط الذي تعهد إبليس أمام ربه أن يضل الناس عنه، لذلك فعندما يجد الإنسان نفسه أمام اختيارات متعددة عليه أن يستعيذ بربه من شره وأن يلوذ بجناب ربه.
وملة إبراهيم هي من تجليات الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم، والله تعالى هو الذي هداه إليها، وهي الآن هي دين الحق الذي أكمله الله تعالى للعالمين.
والاستمساك بما أوحي إلى خاتم النبيين هو عين الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم، والذي يهدي إلى دين الحق هو كتاب الله العزيز:
{قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} الأحقاف 30

إن الصراط المستقيم بريء من طرق المغضوب عليهم والضالين، والمغضوب عليهم هم من جعلوا الدين طقوسا ظاهرية وشعائر ومدوَّنات قانونية وشبهوا ربهم بخلقه واتبعوا سنن اليهود وأعرضوا عن كل أمرٍ جوهري لحساب ما هو سطحي وعرضي، وهم أيضا من انشغلوا تماما بأمور الدنيا فجعلوها أكبر همهم ومبلغ علمهم، أما الضالون فهم من أشركوا بربهم وأعرضوا عن الحق وتنكبوا طريقه واتبعوا سنن النصارى وقدَّسوا مشايخهم وأسلافهم وأهملوا أمور الدنيا وركزوا على أداء الشعائر والنوافل وازدروا السنن الكونية.
-------
إن الصراط المستقيم هو سنةُ الرسول التي مارسها بالفعل وهي المؤدية إلى تزكية النفوس وتعليمها والرقي بها وإلى بناء الأمة الخيرة الداعيةٍ إلى الله تعالى الآمرةِ بالمعروف الناهيةِ عن المنكر المجاهدةِ في سبيل الله والمستضعفين في الأرض المدافعةِ عن الحق القائمةِ بالعدل والقسط المقدسةِ لحقوق الإنسان والمحافظةِ على كرامته والتي لا يتخذ أفرادها بعضهم بعضا أرباباً من دون الله تعالى، إن من يساهم في أمر كهذا سيظل يجني إلى يوم الدين ثمارَ ما قدم من عمل وثمارَ أعمال من تسبب في هدايتهم بسعيه وجهاده، وذلك أعظم بكثير ممن انشغلَ بأداءِ النوافل وقصر في أداء واجبه نحو أمته، إن الانشغالَ عن تلك الواجبات بأداء الشعائر والنوافل إنما ينطلق من تصور خاطئ عن الإله، فهلا سأل أحدهم نفسه لماذا خلق الله تعالى الناس في احتياج إلى بعضهم البعض؟ ولماذا أجرى أمورَ الكون وفق قوانين وسنن لا تبديل لها ولا تحويل؟ ألا يظن أولئك أن الله سبحانه هو رب الجميع وأن إطعام يتيمٍ أو مسكين أو هرةٍ صغيرة أفضل عنده من أداء نافلة لم يلزمهم بها، لقد أخبرهم في كتابه بما يرضيه من أعمال وحثهم على فعلها، فكيف يظنون أنهم أعلم منه بما يرضيه وكيف يشككون في السبل التي أوضحها للتقرب إليه؟
-------
إن النجاةَ في الآخرة والفوز بالسعادة فيها ليس مرتبطا بالضرورة بطول التنسك والتبتل والرهبنة ولا بالعكوف على تراث السلف، ولكنه منوط بالاستجابة للأوامر الإلهية الواردة في الكتاب العزيز والتي جسَّدها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بسلوكه وبسيرته الحقيقية، فالإسلام ليس دين المنقطعين في المغارات المنعزلين عن الدنيا ولكنه دين من يخوض غمار الحياة ويجاهد لتكون كلمة الله هي العليا ويقوم بأداء حقوق التجليات الإلهية في هذا العالم، والجهاد هو بذل كل ما يمكن من جهد للتغلب على معوقات السير على الصراط المستقيم، وليس فيه أي عدوان على أحد، لأن الاعتداء هو أصلا انحراف عن الصراط المستقيم.
إن حاجة الإنسان إلى معرفة الصراط المستقيم لا تنتهى أبدا، والصراط المستقيم هو الأمر الأمثل بالنظر إلى مقاصد الدين العظمى بالنسبة إلى إنسانٍ ما فى لحظة ما؛ فهو الأمر المفضل والأكثرُ فعالية لإعداد الإنسان الرباني الفائق الصالح المفلح أى للوصول بالإنسان إلى كماله المنشود فى تلك اللحظة، وبمداومة الإنسان على طلب الهداية إلى الصراط المستقيم سيجد نفسه مبرمجا بحيث يهتدي دائما إليه، وآية ذلك ألا يندم على قول أو فعل أو سلوك صدر عنه، بل يجد فى نفسه السكينة والطمأنينة بعد هذا الصدور.
والاعتصام بالله هو عين الصراط المستقيم وحقيقته، قال تعالي: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(101)} (آل عمران)، ولكي يتم ذلك لا بد للإنسان أن يتزود بالعلم اللازم وهو العلم بالأسماء الحسنى ومقتضياتها، وليس ذلك بالأمر الشاق لمن عقد العزم على أن يعتصم بكل حقٍّ ظهر له وثبت عنده بالبرهان المبين ولمن طلب الحق حتى يعتصم به، فالداعي قائلا: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) كأنه يقول اهدني إليك حتى أعتصم بك واكتفى بك عمن سواك، والاعتصام بكتاب الله الذي هو حبل الله هو عين الاعتصام بالله.
قال تعالى:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} الأنعام.
وقد زعم بعض المجتهدين الجدد أن الصراط المستقيم هو الوصايا الواردة في هذه الآيات وجعلها عشرا بفرض أن اتباع الصراط المستقيم هو الوصية العاشرة، فصفق له كل ضال مفتون أو جاهلٍ مسكين، ذلك لأنه جعل للمسلمين وصايا عشر كما كان لليهود وصايا عشر، هذا رغم أن الأمر باتباع الصراط المستقيم ورد كأمر واضح وصريح وليس كوصية، ورغم أن ما قالوا إنه وصايا هي بالأصالة الأمور التي حرمها الله تعالى على الناس ثم وصَّى بذلك، ثم قال هؤلاء المجتهدون إن هذه الوصايا هي الصراط المستقيم دون أن يدركوا التناقض في كلامهم، فبذلك تكون الوصايا تسعا وليس عشرا!!
والصراط المستقيم هو بالطبع أمر أعم من الأمور التسع الواردةِ هنا، وقد قال الله تعالى في نفس السورة:
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) الأنعام
فالصراط المستقيم هو طبقا للقرءان الدين كله، والإسلام كله، وهو الدين القيم، وهو ملة إبراهيم، وهو صراط من أنعم الله عليهم، وهو الذي يهدي الله تعالى إليه من يشاء، وهو الطريق الذي يهتدي إليه من يعتصم بالله، ففي كل موقف يجد الإنسان نفسه فيه وعندما يكون أمامه بعض البدائل هناك دائما الاختيار الأمثل، هذا الاختيار هو الصراط المستقيم الذي يهتدي إليه كل من كان على صلة وثيقة بربه وكل من كان حريصا على طلب الاهتداء إليه، بينما يحاول الشيطان أن يضله عنه، فالصراط المستقيم هو جماع الأوامر الإلهية كلها، وهو أيضا العمل بمقتضى هذه الأوامر، وكل من تمسك بالقرءان الكريم هو على صراط مستقيم، قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [الزخرف:43].
وكل حياة الإنسان وسعيه إلى ربه هي صراطه، فالإنسان التقي الصالح تكون حياته تجسيدا وتمثيلا لصراط مستقيم هو الطريق الأمثل إلى ربه، وهو الطريق إلى تحقق هذا الإنسان بكماله المنشود وتحقيقه المقصد من وجوده.

*******


هناك تعليقان (2):

  1. سلام الله عليك دكتور جعلنا الله وإياكم من المتبعين للصراط المستقيم يا الله ووفقنا لذلك.. بارك الله فيكم

    ردحذف