إن الإنسان قد جعل خليفة في الأرض عن أمر ربه، ذلك
لأنه بحكم حقيقته الذاتية هو الأداة المثلى لتفصيل وإظهار الكمالات الإلهية، وكل
ذلك يمثل الأمانة التي حملها والتي لا يصلح لحملها إلا هو والتي بسببها كُرِّم
وفُضِّل وحُمِل في البر والبحر، والأرض هي المجال الأقصى للتفصيل، وهي لذلك لا
يمكن أن تقيد أو تحصر من تنزه عن المكان ومن له الإحاطة التامة به، فالإنسان في
هذه الأرض هو خليفة وآلة إلهية تظهر به السمات والأفعال الإلهية التي هي غيب مطلق
بالنسبة إلي الكائنات الأرضية، والإنسان كخليفة في الأرض مكلف باستعمارها وله حق
الانتفاع بمواردها وقد سخر له كل شيء فيها، نعم إن الله تعالى هو الظاهر المطلق
ولكنه أيضا هو الباطن المطلق، وكل اسم من الاسمين يقتضي آيات وسننا وأمورا،
والإنسان الخليفة هو النقطة المميزة بين مقتضيات كل من الاسمين، فبه تظهر آثار
السمات الإلهية، وهو الخليفة بالنسبة إلي الكائنات الأرضية عما بطن منها، ولذلك
كان هو أيضا بالنسبة إلي تلك الكائنات ظاهراً وباطنا وأولاً وآخراً، فهو الظاهر
لها بالمهمة المنوطة به وهي الخلافة في الأرض، وهو الباطن بحقيقته بالنسبة إليهم،
وهو الأول لتفوق وسمو حقيقته والتي كان بها بمثابة العلة الغائية لإيجاد تلك
الكائنات، وهو آخرها ظهورا وبقاءً، ذلك لأنها تحققت وظهرت قبله لتهيئ المجال
لظهوره؛ فهو تاجها وخلاصتها وهو المخلد بعدها، ولكونه أداة التفصيل كان منه المؤمن
والكافر والصالح والطالح والمخلص والمشرك والمسلم والمجرم والقوي والضعيف والغني
والفقير....إلخ، فكل إنسان ظهر مهما كانت الحالة التي وجد عليها هو من لوازم تحقيق
المقاصد الوجودية، والصفات غير المرضية هي من مقتضيات النقص اللازم للطبيعة
الإنسانية، ورغم كونها كذلك فهي من لوازم تفصيل وظهور الكمالات الإلهية، وهذا مما
يبين أهمية وضرورة الحقائق الإنسانية التفصيلية ووجوب وجودها بربها.
--------------------
إن ظهور الإنسان بآثار ومقتضيات الأسماء الإلهية
الحسني يقتضي أن يكون مكرما من حيث هو إنسان وأن يكون خليفة في الأرض وأن يسخر له
كل ما هو فيها، ولكن لابد لكون الإنسان أداة التفصيل المثلي أن يظهر بمقتضيات نقصه
المظهرة لأصله العدمي والمظهرة أيضاً لتفاصيل الكمالات الإلهية، وأمور مثل شدة وعي
الإنسان وشعوره بأنيته ورغبته في تأكيدها لا تجد تجسيدها الأمثل إلا في سعيه
للتحقق بكماله المنشود، ولكن قد يتصور الإنسان أنه لا سبيل إلي الاستجابة إلي هذا
الشعور إلا بالاستجابة لمقتضيات نقصه والتفاني في إشباعها وبذلك يتردى إلي أسفل
سافلين، ولكل هذا كان هو أداة التفصيل المطلق وكان أبعد الكائنات مدى فملأ بصوره
ومراتبه الممكنة كل المراتب المقدرة من أعلى عليين إلي أسفل سافلين وكان منه من
استحق في الآخرة الفردوس الأعلى ومن استحق أن يخلد في الدرك الأسفل من النار.
--------------------
إن للإنسان دورا محوريا منوطا به، ولذلك وبذلك كان
خليفة في الأرض ومكرما من حيث هو إنسان، والإنسان من حيث هو كذلك ملزم باستعمال
ملكاته الإنسانية لرؤية آيات الله في الأنفس والآفاق والظواهر الطبيعية ولاكتشاف
السنن الكونية، وهو ملزم بمعرفة المنطق وراء كل ذلك واللغة التي كتبت بها الأمور،
لذلك فهو ملزم بمعرفة علوم الأدوات ومنها العلوم اللسانية والمنطقية والرياضية،
ولكون الإنسان ظاهراً بآثار السمات الإلهية بالنسبة إلي الكائنات الأرضية بما فيها
الإنسان نفسه فإنه ظهر منه الخلق والإبداع والتشريع....إلخ؛ فكان من عوامل إثراء
عالمي الخلق والأمر ومن لوازم تفصيل وإظهار الكمال الإلهي المطلق بإذن ربه،
والإنسان مكلف بإعمال ما ألقي إليه من أوامر ومعلومات من عالم الغيب لتحقيق
المقاصد من إيجاده، وثمة شعبة أخري منه مكلفة من حيث لا تشعر بالسعي والكدح للوصول
إلي معرفة ما ألقي إلي غيرهم ابتداءً، وبذلك يمكن إدراك عظمة شأن ما ألقي إلي
الشعبة الأولى وإدراك أن إرسال الرسل كان رحمة للعالمين، وبذلك أيضاً تتحقق
المقاصد الوجودية.
--------------------
إن القول بأن الإنسان هو العلة الغائية لخلق الأرض
وما عليها من الكائنات يعني أنه كان متقدما عليها عند ربه من حيث المرتبة وأن
ماهيته كانت أكثر كمالا وإحكاما بحيث أن كل ماهيات تلك الكائنات هي من تفاصيلها
الممكنة وأنه كان المقصود من إيجادها بمقتضى السنن الإلهية، فهو أولهم من حيث
الرقي والتفوق وهو آخرهم من حيث الظهور والتحقق، فلأنه كان الأول هناك كان لابد أن
يكون الآخر هنا، وهذا ما اقتضى أن يكون كل ما وجد من قبله تمهيدا لظهوره وأن يسخر
له كل ما في الأرض وأن يعطي حق الانتفاع به وإلا لما جاز له أن يسفك دماء ما يأكله
من أنعام وطيور ولعدَّ ذلك من الإفساد في الأرض.
--------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق