الأربعاء، 20 أغسطس 2025

من كتابنا رقم 135، مكونات وملكات الإنسان، الطبعة الثانية، 2018

 

من مصطلح النفس

مصطلح النفس يُطلق على الإنسان بكل كياناته، وهذه النفس تموت أو تُقتل، وموتها هو تفكك كياناتها وذهاب كل كيان إلى أصله وعدم قدرتها بصفة عامة على التعامل والتفاعل مع كائنات العالم الذي كانت فيه بالطرق المألوفة، كما يُطلق هذا المصطلح أيضًا على الكيان الإنساني الجوهري، هذا الكيان لا يموت، ولكنه يذوق الموت، فبه القلب والمراكز الحقيقية للإحساس والمشاعر، هذا الكيان الجوهري ليس بمادي بالمعنى الطبيعي للمادة، وهو حالّ في عالمه الخاص اللطيف أي البرزخ حالَ كونه مرتبطا بالجسم أو غير مرتبط به، ولكن الإنسان يتعود منذ صغره على ألا يتصل بالعالم الخارجي إلا من خلال هذا الجسم وباستعمال حواسه، وبذلك يغفل عن إمكانات نفسه، وهناك من تظل حواس نفسه على درجةٍ من اليقظة فيرى ما لا يراه الناس، وهناك من يعمل على إيقاظها بالمجاهدات والرياضات الروحانية.

والإنسان يُصبح أكثر إحساسا بعالم النفس عند انشغاله عن حواسه بالنوم أو بأي شيء آخر.

النفس التي هي الكيان الإنساني الجوهري هي أصلا متعينة في عالمها الذي يمكن تسميته بالبرزخ لكونه برزخا بين الدنيا وبين الآخرة حتى في حال حياتها، ويشتد إحساسها به عند غيبة الجسم عن وعيه لأي سبب، وهذا العالم له إطاره الزماني المكاني الخاص به، وهو متداخل مع العالم المادي المشهود، ولكنه أوسع مدى وإحاطة منه، لذلك يمكن للنفس أن ترصد جريان زمن هذا العالم المادي وأن تشعر به دون أن تتأثر كثيرا به، ولو كانت جزءا من العالم المادي لما أمكنها إدراك مرور الزمن ومراقبته.
والقبر هو من عالم الدنيا، والجسم الذي يوضع فيه يجري عليه عادة ما يجري على المواد العضوية؛ فيتحللُ إلى المواد المكونةِ له أصلا، أما النفس الجوهرية فهي تذوق الموت، ولكنها لا تتقيد بالقبر إلا بسبب انشغالها بأمر الجسم، أما من تجاوزوا هذا التعلق فإنهم يصعدون، فالنفس تكون حيثما تعلقت.
وعالَم النفس المسمى بالبرزخ شأنه عجيب ومعقد، وعالم البرزخ لا توجد له علاقةٌ ضرورية بمفهوم المكان المألوف، وتُنقَل إليه النفوس بعد الموت أو بالأحرى يكون لإحساسها به الغلبة، فهي حالَّة بصفة دائمة فيه بحكم طبيعتها، وهو انتقال يجلّ عن التصورات والمفاهيم المستخلصة من هذا العالم الطبيعي.
والنفس في هذا العالم تكون على صورتها التي تكوَّنت في حياتها الدنيا، فالنفوس التي اكتسبت الأخلاق الجميلة تتنعم بها، أما النفوس التي اكتسبت الصفات الرديئة فتتعذب بها، فالنفس أصلا هي متعينة في هذا البرزخ حتى من قبل أن تذوق الموت، ولكنها تكون عادة في غفلة عنه لشدة انشغالها بالعالم الحسي أي بعالم الشهادة.
فالعالم الذي تتواجد فيه النفوس هو ما يُسمَّى بالبرزخ، وذلك لأنه ليس عالما تاما بالمعنى الحقيقي، والحياة فيه كذلك إلا على سبيل الاستثناء، ذلك لأن الكائنات فيه لا تستطيع بصفة عامة أن تعبر عن نفسها أو أن تطورَها أو أن تغير منها، كما لا تستطيع التعامل بطريقة طبيعية مع الكائنات الأخرى، وخاصة كائنات عالم الشهادة، ولا تستطيع بصفة عامة أن تؤثر فيها ولا أن تطلع عليها، ولكن بعض النفوس التي تعوَّدت الانتقال إلى هذا العالم في حياتها الدنيا وتمرَّست به قد تستطيع التأثير بطريقةٍ ما على الأحياء، وقد تستطيع التفاعل مع بعضهم لوجود تجانسٍ ما.
*****
إنه بتعين وظهور النفس الإنسانية بعد النفخ من الروح المنسوب إلى الله تعالى في الكيان الجنيني فإنه يتعين لها ملكاتها الخاصة وحواسها مثل الإدراك والوعي والسمع والبصر، ولكنها بارتباطها بالجسم الذي هو مملكتها المباشرة فإنها تهمل ما هو لها من الملكات وتألف استعمال حواس الجسم، وتصبح هي نوافذها إلى العالم الخارجي، ولكن بحكم تصميم وتركيب الكيان الإنساني فإنه ينام من حين لآخر، وعندها تكف النفس عن الانشغال بالجسم، وتتحرر ولو قليلا، فتستطيع أن تحِلَّ في موضع تفكيرها في عالمها، أما الجسم فيبقى حيَّا بالحياة العضوية الآلية التي كانت له قبل أن يُنفخ فيه من الروح الأمري، ولكن لابد من بقاء ارتباطٍ ما للنفس به مثلما يظل السابح في البحر مثلا مشغولا بأمر ملابسه التي تركها على الشاطئ، هذا الاهتمام والانشغال هو المدد اللازم لاستمرار حياة الجسم أثناء النوم، والنفس في حركتها اللامادية بعيدًا عن الجسم لا يفصلها عنه فترة زمكانية وإنما أمر آخر لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ العادية، لذلك فبمجرد تعرض الجسم لخطرٍ ما فإنها تكون لتوِّها عنده، أما العالم الذي يشكل مسرحا لانطلاقات النفس فهو عالم لطيف يمكن تسميته بالعالم البرزخي باعتباره فاصلا بين عالمين تامين وصلة بينهما في الوقت ذاته، وفيه يمكن أن تسبح الأفكار وتتجسم المعاني وتلطف المباني.

*******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق