الاثنين، 18 أغسطس 2025

مقدمة كتابنا رقم 115، الأفعال الإلهية والحرية الإنسانية، طبعة ثانية، 2017

 مقدمة

 

يقدم هذا الكتاب حشدًا هائلا من المعلومات والحقائق الإلهية التي توصل إليها المؤلف بفضل الله تعالى، كما يقدم الإجابات عن الكثير من الأسئلة والمعضلات التي حيَّرت البشرية منذ ظهورها، ومن بينها العلاقة بين السمات والأفعال الإلهية وبين الصفات البشرية، ومسألة القضاء والقدر، وحقائق ما هو منسوب إلى الإنسان من مشيئة وإرادة واختيار وحرية، وكلها من ثمرات اتباع دين الحق والالتزام بمناهجه، وهذه المعلومات على درجة عالية من الخطورة والأهمية لمن أراد أن يزكِّي نفسه وفقا لمنهج دين الحق ولمن أراد أن يطلع على الحقائق الكونية وأسرار الوجود الإنساني.

وكل فعل من الأفعال الإلهية قد يكون قد يكون مقتضى اسم من الأسماء الإلهية، وقد يكون مقتضى منظومة من منظومات الأسماء، وهذا الكتاب يتحدث بصفة أساسية عن الأفعال التي هي من مقتضيات منظومات الأسماء مثل المشيئة والإرادة والقضاء ... الخ، لذلك، فهذا الكتاب مكمِّل لكتب الأسماء.

 

*******

 

 

 

 

الباب الأول

*الأفعال الإلهية

 

الله تعالى هو الفعال، فهو فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وذلك يعني أن له الفعالية المطلقة، ومن أسمائه الحسنى "الفعَّال"، قال تعالى:

{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} البروج16  *  {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} هود107

{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} الأنبياء104  *  {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ }الأنبياء17  *  {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّا آتَيْنَا حُكْما وَعِلْما وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } الأنبياء79

واللفظ "فعل" له دلالتان، فهو من ناحية ينوب عن كل الأفعال الخاصة الأخرى، الذاتية، والمتعدية الأثر إلى الغير،  كالحياة والعلم والتكلم والوحي والذكر والتنعيم والتعذيب والاستدراج والرضى والغضب والحب والتدبير والتصريف والتجلي والاختيار والإنزال والتنزيل .... الخ.

ومن ناحية أخرى يُعبَّر عما به يتحقق ما وقع عليه الاختيار من أفعال وما كان مرادًا منها.

والفاعل الحقيقي هو الله سبحانه، ذلك لأن كل سمات الكمال هي بالأصالة له، فهو الفعال لما يريد، فكل فعل من حيث هو فعل ينسب إليه لأنه كان بمقتضى سننه، أما من حيث محدودية الفعل أو كونه يتضمن مخالفة لأمر شرعي فإنما صدر من حيث النقص الذاتي للمخلوق فهو ينسب إليه، ولا يجوز أن يوصف به الله تعالى، ولا أن يُنسب إليه.

فالفعل الصادر عن إنسانٍ ما إنما كان بمقتضى طبيعته الذاتية، وهو لذلك يكون محلا لآثار الفعل بمقتضى السنن، وطبيعة الإنسان تتضمن صفات كمال هي مقتضيات سمات الحسن الإلهية في الطبيعة الإنسانية، كما تتضمن تلك الطبيعة صفات نقص هي أمر ذاتي خاص بهذا الإنسان ويتميز به عن غيره، لذلك فهو الأولي بآثار فعله.

والله سبحانه لا يتصف بصفات مخلوقاته، ولكن صفات كمالهم النسبي المقيَّد تشير إلى سمات حسنه المطلق، ولولا ذلك لما علموا شيئا عنه، وكل مخلوقات الله تعالى، وكل ما هو لهم من جوارح وإمكانات وقدرات، آلات لله عزَّ وجلَّ يفعل بها ما يشاء ويستعملها كيف يشاء؛ فهو يعذب المشركين عند القتال بأيدي المؤمنين وهو يحيي الأرض بالماء الذي ينزله من السماء.

فالفعل قد يُنسب إلى الآلة الظاهرة كما يُنسب إلى من استعملها، ولكن يجب الحذر فلا يجوز أن يُنسب إليه سبحانه الأفعال التي هي مقتضي النقص الذاتي المحض لهذه الآلات والذي يحوجهم إلى الأكل والشرب وغيره.

ومع ذلك فمن حقه سبحانه أن ينسب إلى نفسه بعض أفعال وشئون عباده على سبيل التنزل أو للتعبير عن عظم الأمر أو للتشريف أو لبيان رضاه عن الفعل، قال تعالى:

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} الأنفال

ولقد ورد في إحدى المرويات قوله: "يا عبدي استطعمتك فلم تطعمني" فهو يبين هاهنا بأسلوب مجازي مدي خطورة أن يُترك أحد الناس جوعانا.

*******

إن لله سبحانه الفعالية المطلقة؛ أي له كل فعل حقيقي وكل تأثير مطلق، وليس لمخلوق أية قدرة على إحباط آثار الفعالية الإلهية، بل إن فعاليته هو نفسه من مظاهر الفعالية الإلهية، وبها عرف شيئا عنها.

فكل مخلوق في كل حين لكي يكون فعالا لابد له من مدد لا ينقطع من فعالية الله وتأثيره، ولكن فعالية المخلوق محدودة مقيدة بحكم طبيعته المحدودة المقيدة، وهي تكشف أيضًا ما لديه من نقص كامن في طبيعته الذاتية، ولا يمكن نفاذ تأثيرها إلا بسماح المشيئة الإلهية؛ أي بتوافق مشيئة المخلوق مع منظومة السنن الكونية التي لا يستطيع أحد من المخلوقات تغيير شيء منها.

وقد رووا أن الرسول قال: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بسيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ... "، فهذا تعبير عن ثبات منظومة السنن وعن أن الأمر الذي حتَّمته لا سبيل إلى دفعه أو تغييره، وهذا ما نصَّت عليه آيات القرءان نصًّا صريحا:

{... وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا} [الإسراء:77]، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الأحزاب:62]، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الفتح:23].

وتوافق الفعل الإنساني مع طبيعة الإنسان الذاتية وصدق تعبيره عنها وصدوره بمقتضى اختيار الإنسان وإرادته كل ذلك هو مناط مسئولية الإنسان عن فعله ومناط كون الإنسان محلا لتلقي تأثيرات هذا الفعل، هذه التأثيرات تؤدي إلى تغيير صورة الكيان الجوهري شديد السيولة والتأثر، وهي التي تتمثل في الجزاء الوافي في الدنيا والأوفى في الآخرة عندما ينقلب الباطن ظاهرا.

*******

يظن البعض أن الإيمان بأن الله هو الفاعل الحقيقي وأنه الفعال لما يريد يتنافى أو يتعارض مع حتمية الأخذ بالأسباب العادية الظاهرة كحتمية السعي طلبا للرزق مثلا، ولكن من يسعى وهو مؤمن بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين هو يوقر في نفس الوقت القوانين والسنن التي هي مقتضيات المشيئة الإلهية والأسماء الحسنى، فهو بذلك يحظى برضا وتوفيق من ربه، فهو الذي اقتضى وقدر هذا النظام الكوني، وهو الذي ربط الأمور ببعضها وجعل للفعل آثاره ونتائجه.

ولكن على الإنسان أن يعلم أن ثمة أسبابًا خفية أيضا، وبذلك يصح الافتقار الدائم من العبد إلى ربه ويظهر أن الله هو الغني الحميد، لذلك فعلى الإنسان السعي الجاد مع التفويض وصدق التوكل على الله.

*******

إن الفعل الإلهي يتضمن نقل الكيانات من حالة إلى أخرى ومن ذلك نقلها من إحكام إلى تفصيل ومن تفصيل إلى إحكام أو من حالة أعلى إلى حالة أدني أو من حالة أدني إلى حالة أعلى أو من بطون إلى ظهور نسبي أو من ظهور إلى بطون نسبى …. إلخ، وكل ذلك طبقا لطبيعة الكيان ذاته.

*******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق