مصطلح الخلافة الراشدة: المفهوم، النشأة، والتحولات
يشغل مصطلح "الخلافة
الراشدة" مكانة مركزية في التراث السياسي الإسلامي، حيث يُنظر إليه بوصفه
النموذج المثالي للحكم بعد رسول الله ﷺ. إلا أن هذا المصطلح، رغم مكانته الرمزية،
ليس مصطلحًا أصيلًا، فلا وجود له في القرءان الذي هو المصدر الأوحد للمصطلحات
الدينية، فهو اصطلاح تاريخي محدث، نشأ في بيئة ما بعد النبوة، وكان البداية الرسمية
لانقلاب الأمة على أعقابها، وتمت صياغته لتوصيف حقبة الحكم التي أعقبت وفاة النبي
محمد ﷺ، والتي ابتدأت بتولي أبي بكر الخلافة، وانتهت باغتيال الإمام علي بن أبي
طالب، علمًا بأن الإمام عليا كان في غنىً عنه بما يحمله من درجات شهد بها له النبي
ﷺ نفسه.
لذلك يجب النظر في مفهوم
"الخلافة الراشدة" ضمن الإطار النصي والتاريخي والفكري، وبيان تحوله من
تجربة حكم بشرية محدودة، إلى أداة تأصيل ديني لأنظمة سلطوية لاحقة، كما يلزم تفكيك
بعض الأساطير المؤسسة حول الخلافة، خاصة في ضوء الفرق بين المفهوم القرءاني
للخلافة والمفهوم السياسي الذي نشأ لاحقًا.
أولًا: نشأة مصطلح "الخلافة
الراشدة"
إنّ مصطلح "الخلافة
الراشدة" لم يكن معروفًا في عصر النبي ﷺ، ولا في الساعات أو الأيام الأولى
التي تلت وفاته.
فعندما اجتمع المهاجرون والأنصار
في سقيفة بني ساعدة للتشاور في شأن من يلي أمر الأمة، لم يكن ثمة لقب أو اصطلاح
جاهز يمكن أن يُمنح لمن سيقود المسلمين.
وقد أُطلق على أبي بكر لقب "خليفة رسول الله"، في إشارة إلى أنه يَخلف النبي ﷺ في تدبير
شؤون المسلمين الدنيوية، لا في مقام النبوة أو الرسالة. وعندما تولى عمر بن الخطاب
السلطة من بعده، اعتُبر "خليفة خليفة رسول الله"، وهو لقب طويل وغير
عملي، فعُدل عنه إلى "أمير المؤمنين"، وهو اللقب الذي بقي مستعملًا من
بعده.
إذًا، فمصطلح "الخلافة
الراشدة" لم يكن موجودًا زمنًا، بل هو نتاج اجتهاد بشري وفكري لاحق، تم من
خلاله تأطير تجربة الحكم الأولى باعتبارها نموذجًا راشدًا مقابل الملك العضوض أو
السلطنة الوراثية.
ثانيًا: الفرق بين الخلافة والملك
في القرءان الكريم تَرد الخلافة
باعتبارها وظيفة إنسانية تكليفية، لا باعتبارها نظام حكم سياسي بعينه. فالخلافة في
الآيات الكريمة تشير إلى الاستخلاف العام للإنسان في الأرض، كما في قوله تعالى:
{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}
[البقرة: 30]
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ
الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا
آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيم} [سورة
الأنعام: 165]
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ
خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ .....} [فاطر: 39]
ولقد تنبأ النبي ﷺ بتحول الأمر الملك
العضوض الذي يقوم على التغلب والقهر وتوريث الحكم، ويشبه أنظمة الاستبداد
الإمبراطوري.
فالملك العضوض هو حكم وراثي سلطوي
لا يعكس مبدأ الشورى ولا يُراعي إرادة الأمة، بل يتحول فيه الحاكم إلى مالك لشؤون
الرعية، في حين أن الخلافة الراشدة كانت – في حدها الأدنى – تُراعي المشاركة
والاختيار والبيعة، حتى وإن شابها بعض الاجتهادات أو الإكراهات السياسية.
ثالثًا: هل كانت الخلافة مصطلحًا
دينيًا؟
المراجعة الدقيقة للمصادر الأولى
تُظهر أن الخلافة لم تكن مصطلحًا دينيًا مُنزَّلًا، وإنما اصطلاح سياسي اجتهادي، وقد
أُطلق في البداية لتوصيف علاقة أبي بكر بالنبي ﷺ، لا كنظام حكم مطلق. ثم تطور
تدريجيًا مع اتساع الدولة وتزايد تعقيداتها.
والتعريف الشائع عند المتأخرين:
"الخلافة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"، هو تعريف
نظري ظهر في مرحلة لاحقة، وهو يعكس مقاربة مذهبية طُورت في ظل النظم الأموية
والعباسية، بل إنه يعكس التماهي بين الدين والسلطة، وهو ما يُخالف التصور القرءاني
للتكليف ومسؤولية الأمة.
رابعًا: تجربة الحكم بعد الخلافة
الراشدة
مع انتقال السلطة إلى الأمويين ثم
العباسيين، تحوّلت الخلافة إلى نظام سلطاني إمبراطوري، قائم على الوراثة والتغلب،
وليس على الشورى أو التفويض الشعبي. وقد جرى تبرير ذلك فقهيًا من قبل علماء السلطة
عبر قرون، حتى باتت "الخلافة" أداةً لتقديس الحكم، لا لضبطه، وأصبح الدين مدونة قانونية تسري على الرعية، وأيديولوجية
للعدوان على الآخرين وإيقاد نيران حروب لا تنطفئ.
ووصفُ هذه النظم بالخلافة
الإسلامية فيه مغالطة تاريخية ومعرفية، إذ أن تلك الأنظمة كانت أقرب في بنائها إلى
النماذج البيزنطية والساسانية، من حيث الاستبداد والوراثة واحتكار القرار، وتفوقت
عليها في الظلم وسفك الدماء والبهيمية ومحاربة العلماء وازدراء الشعوب.
ومن المؤسف أن كثيرًا من مظالم
تلك العهود تُوظَّف اليوم ضد الإسلام، باعتبارها "نُظمًا إسلامية"، في
حين أنها مناقضة لجوهر الدين.
خامسًا: الأمة والسيادة في التصور
الإسلامي
الإسلام لا يُلزم المسلمين بنموذج
سياسي مركزي واحد، بل يُقرّ بمرونة التنظيم السياسي، بما يتناسب مع الزمان
والمكان، شرط أن يُحقق الغايات الكبرى للدين، وهي:
- إقامة
العدل
- احترام
حقوق الإنسان
- حفظ
الكرامة
- صيانة
الحريات
- التعايش
مع الآخرين
- الشورى
والتعددية
والأمة في التصور الإسلامي ليست
الدولة. الأمة
هي كيان حضاري ثقافي وإيماني، وقد توجد في عدة دول، كما هو الحال اليوم. ويُشبه
هذا ما نراه لدى الطوائف أو الأقليات المنظمة، كاليهود في الغرب، فهم أمة دينية
تعمل ضمن دول متعددة.
أما الدولة فهي أداة تنظيمية،
تتغير بتغير العصور والظروف، ولا يوجد في الإسلام "شكل سياسي مقدس"، بل
توجد قيم حاكمة.
سادسًا: المفارقة بين الخلافة
والإمامة
من الخطأ الخلط بين الخلافة والإمامة،
فالأولى مصطلح سياسي متغير، والثانية مقام ديني وروحي.
وقد أُنتجت تعريفات متأخرة خلطت
بين المقامين، مما أوقع الفكر الإسلامي في كثير من الإشكالات، خاصة حين رُفعت
الخلافة إلى مصافّ العقائد.
كما أن إطلاق ألقاب مثل
"خليفة الله" على الحكام – كما فعل الشاعر النصراني الأخطل عندما قال:
الخائضِ الغمرَ، والميمونِ
طائرُهُ
خليفةُ
اللهِ يُستسقى به المطرُ
يمثل إقحامًا شعريًا خطيرًا، يضفي
طابعًا إلهيًا على حكم بشري قد يكون فاسدًا أو ظالمًا.
الخاتمة
الخلافة الراشدة كانت مصطلحًا
بشريًا تاريخيا، لا أصل له في كتاب الله، ولا علاقة له بالمفهوم القرءاني للخلافة،
وكانت أول مظاهر الانقلاب على الأعقاب وتحويل الأمة الخيرة الصالحة إلى دولة من
دول القرون الوسطى.
فالخلافة الراشدة كانت تجربة
بشرية غير معصومة، ولم تكن نموذجًا مطلقًا، ولم تكن منصوصًا عليها باسمها في القرءان،
وإنما هي اجتهاد بشري نابع من واقع تاريخي خاص، وقد كانت هذه الخلافة الراشدة
التمهيد اللازم لتحول الأمر إلى ملك استبدادي إرهابي عضوض
والواجب اليوم ليس في تكرار تلك
التجربة بأشكالها، بل في استلهام قيم الإسلام العظمى ومبادئه الكبرى في إدارة أمور
الناس: الشورى،
العدالة، الحرية، الأهلية والكفاءة، والمساءلة. كما يجب الفصل الواضح بين الدين
والسلطة، والتوقف عن تحميل الإسلام إرث أنظمة سياسية لم تكن سوى نسخ سلطوية للملوك
السابقين.
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق