إن الإرادة
الإنسانية هي نشاط قلبي يعبر عن القصد ويسبق الفعل، وهذا النشاط اقتضى إيجاده
وتحقيقه التفاعل بين طبيعة الإنسان ولوازمها المعنوية من ناحية والعالم الخارجي من
ناحية أخرى، وذلك النشاط اختياري ولكنه مقيد بطبيعة الإنسان والظروف المحيطة.
والمقصود بأن للإنسان
إرادة حرة واختيارا أنه لا سلطان لأحد على جوهره وباطنه بمعني أنه لا سلطان لأحد على
أمر يريد أو يقرر في باطنه فعله أو يميل إليه قلبه، كما أنه لا سلطان لأحد على دوافعه
وميوله واتجاهاته، ومن مقتضيات الإرادة مجموعة الدوافع والحوافز التي تحفز الكائن
على فعل أو سلوك ما ومجالها هو الأشياء في عالم الأمر ونتيجتها هو تحقق الشيء في
عالم الشهادة.
والإرادة
تختلف عن القدرة أو الاستطاعة، فالإرادة ملكة قلبية بها يوجه الإنسان إمكاناته
وقدراته مثل الحواس والفؤاد فتنفعل لها الأعضاء المناسبة ومن تفاصيلها الهمة
والعزم، وهي تعبر عن الطبيعة الذاتية للإنسان.
فلكل
إنسان من الإرادة ما يتوافق مع طبيعته الذاتية، ولذا لما كان الإنسان مقيدا محدودا
كان لابد أن تكون إرادته كذلك، أما القدرة فهي صفة للكيان الإنساني كله فهي بمعنى
التمكن والسعة والاستطاعة، وليس كل ما يريده الإنسان يقدر عليه، وليس كل ما يقدر
عليه يستطيع أن يحققه فقد يحال بينه وبين ذلك.
فالإرادة
صفة أولية تتعلق بشيءٍ ما إما لإيجاده أو للاستحواذ عليه، أما القدرة فهي مقياس ما
لدى الإنسان من سعة وإمكانات لتحقيق وإنفاذ ما تعلقت به الإرادة.
إن
الخلط بين الإرادة وبين القدرة وتنمية إحداهما على حساب الأخرى يؤدى إلى عواقب
وخيمة على الفرد والأمة، فكم من فرد تزكت إرادته وقصَّر في تنمية قدرته فعجز عن
إنجاز متعلقات إرادته فأصابه الفشل المحبط المؤدى إلى الفرار من النفس أو من الأمة
أو من الدين ذاته، وكم من فرد عظيم القدرة والإمكانات ولكن لا إرادة لديه فأهدر ما
لديه ولم يحقق شيئا.
والإنسان
في المواقف التي يواجهها يجد أن عليه أن يختار من بين أمور محتملة متعددة ويجد في
نفسه الإرادة ولا يجد نفسه مقهورا أو مضطرا فيما صدر عنه من فعل أو قول، وذلك
إحساس صادق وهو كافٍ لكي تترتب على فعله أو قوله نتائجه اللازمة.
ولقد
كان اختياره وإرادته الحرة من لوازم ماهية الإنسان التي أبدعها الله سبحانه وشاء
أن تكون كذلك، وهذا يعنى أن منظومة أسمائه الحسنى ولوازمها من القوانين والسنن قد
اقتضت أن يكون للإنسان الإرادة الحرة والاختيار.
والإنسان
باختياره أن يفعل شيئا ما فإنه لا يخلق هذا الفعل كما تصور البعض مما دفع الآخرين
إلى القول بالجبرية الصريحة أو المستترة فكذب الطرفان بآيات ربهم وساء ظنهم
بأسمائه وصفاته، فالإنسان الذي يقرر أن يحرك يده اليمنى مثلا فإنه لا يخلق الحركة
في يده كما لم يقدِّر أو يبتدع آليات تلك الحركة وإنما هو يتوافق مع مجموعة
القوانين التي تؤدي إلى تلك الحركة ويستخدم حق الانتفاع بما هو مستخلف فيه وبما هو
مسخر له، فهو لم يوجد تلك القوانين التي يتوافق معها، ولم يخلق تلك الأعضاء
المسخرة للاستجابة لإرادته، بل إنه لا يعلم بالضرورة الآليات التي تؤدي إلى تحريك
يده إذا أراد هو ذلك.
فالإنسان
يختار أن يفعل فعلا ما فيتم هذا الفعل بموجب قوانين الله وسننه، والإنسان لا يملك
شيئا إزاء تلك القوانين ولا يملك لها تبديلا ولا تحويلا، بل إنه ربما لا يدري عنها
شيئا، وهو لا يملك أن يتخلص من إرادته واختياره، وحتى لو اختار أن يكون تابعا مقهورا
فقد اختار وأراد ذلك أيضا.
ومن
المضحك أن ينسبوا إلى الإنسان خلق الفعل الصادر عنه، هذا مع أن أقرب ما يعبر عن
فعل الخلق أنه تقدير وتصميم To design، فضلا عن التنفيذ Implementation،
وذلك يستدعي إحاطة الإنسان بعلوم وقوانين وسنن لم يكد يدركها إلا الأقلون
حديثًا!!
واختيار
الإنسان معتمد على مجموعتين من العوامل التي لا دخل له في اختيارها، ولكن هذا لا
يعني أنه مخير من حيث المظهر مسير من حيث الجوهر، هاتان المجموعتان هما:
1.
مجموعة
الإمكانات والملكات والقدرات والاستعدادات التي ولد بها.
2.
مجموعة الظروف
الأسرية والاجتماعية والبيئية التي وجد وعاش فيها.
وبالتالي
فإن اختياره لا يمكن أن يكون اختيارا محضا.
والحقيقة
هي أن مجموعة إمكانات الإنسان وملكاته وقدراته واستعداداته هي من لوازم طبيعته
الذاتية وماهيته، ومن تلك المجموعة إرادته واختياره، فتلك المجموعة إذًا تشكل
حقيقة الإنسان وطبيعته، ومن يفعل ما يتفق مع طبيعته الذاتية وحقيقته لا يكون مجبرا
أو مكرها على فعله.
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق