الثلاثاء، 19 أغسطس 2025

مقدمة كتابنا رقم 136، الحقائق والشؤون الإلهية والمتشابهات، الطبعة الثانية، 2018

 مقدمة

 

يقدم هذا الكتاب حشدا هائلا من المعلومات والأسرار المتعلقة بالحقائق والشؤون الإلهية، والتي توصل إليها المؤلف بفضل الله تعالى، كما يقدم الإجابات عن الأسئلة والمعضلات التي حيَّرت البشرية منذ ظهورها، ومن بينها العلاقة بين هذه الحقائق وبين المسائل والقضايا الوجودية، ومنها قضية الوجود والمصير البشري، وكل ذلك من ثمرات اتباع دين الحق والالتزام بمناهجه، وهذه المعلومات على درجة عالية من الخطورة والأهمية لمن أراد أن يزكِّي نفسه وفقا لمنهج دين الحق ولمن أراد أن يطلع على الحقائق الكونية وأسرار الوجود الإنساني.

كما يقدم الكتاب بيانا وتفصيلا لمسألة المتشابهات، ويتضمن معالجة جذرية وجديدة وأصيلة لهذه المسألة.

ويجب الإشارة إلى أن علم الأسماء الحسنى الإلهية يشكل الجزء الأكبر والمحوري من علم الحقائق والشؤون الإلهية، ولذلك تم تخصيص كتب مستقلة له، وكذلك الأمر بالنسبة للأفعال الإلهية، فهذا الكتاب متمم للكتب السابقة، وهي تتضمن الإيمانيات الإسلامية والكثير من الحقائق العليا والوجودية.

 

*******

 

 

الحقائق والشؤون الإلهية 1

 

لله تعالى كيان حقيقي له الأسماء والأفعال والسمات؛ ولقد ألفوا أن يُطلقوا عليه لفظ "الذات"، ولفظ الذات مشتق من "ذو"، هو ليس بلفظ قرءاني، إذ لم يرد منسوبا إلى الله تعالى في القرءان، لذلك فالإنسان مخير بشأنه، ونحن نستعمله أحيانا مع الأسماء والسمات (الصفات)، فنقول الذات والسمات، وهو لا يغني عن ضرورة استعمال لفظ الكيان أو لفظ الكينونة في حالات كثيرة، واللفظ الأفضل هو "النفس" الوارد في قوله تعالى: {... كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَىَ نَفْسِهِ الرّحْمَةَ ....} الأنعام:54، {...وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} آل عمران28، {.... وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ...} آل عمران30، ولكن الناس لن تستسيغ مثل هذا الاستعمال فهم لم يألفوه، ولذلك نجد أنفسنا مضطرين لاستعمال لفظ "الذات".

فالمقصود بالذات الإلهية هي نفسه سبحانه، وهي التي ذكرها في الآيات المذكورة، هذه الذات هي عين كينونته المطلقة ووجوده المطلق لنفسه بنفسه والذي قامت به أسماؤه العظمى والحسنى، وهي أيضًا قيوم كل شيء، ولها الإحاطة بكل الكيانات والمعاني والمباني فلا يُحكم عليها بشيء ولا يُعرف لها كنه ولا تُعرف هي إلا من حيث الأسماء التي هي من لوازمها، ولا تُعرف الأسماء من حيث هي وإنما من حيث مجالاتها ومظاهرها وآلاتها من الآيات والكائنات، كما لا تعرف إلا من حيث مقتضياتها من القوانين والسنن، وكما لا يمكن معرفة شيء عنها إلا من آثار أسمائها فإن تلك الأسماء هي حجب عليها بمثل ما أن العلم بها هو الوسيلة إليها.

فالله سبحانه ليس مجرد معنى أو نظام إدارة الكون أو نسق من القوانين، وإنما له كيان حقيقي هو الذات الحقيقية التي لها الوجود المحض والكينونة المطلقة والحسن المطلق، فالذات هي الكيان الإلهي، والأسماء من لوازم الذات، والسمات من لوازم حقيقة الذات، وتلك الذات تمارس مقتضيات ما هو لها من السمات دونما حاجة إلى آلات أو أدوات وتمارسها أيضًا بما أوجدت ومن حيث ما أوجدت من آلات وأدوات، فذلك من لوازم طلاقتها اللانهائية.

أما السمة فلا تكون ذاتا وإنما هي قائمة بالذات، وإنما تتجلى الذات من حيث ما هو لها من السمات، والذات من حيث سمة من سماتها هي الاسم الوجودي الذي يشير إليه الاسم اللفظي، أما ما ينتج عن الذات من حيث ممارستها لمقتضيات الأسماء والسمات فهو لا يتساوى مع الذات على أي مستوى من المستويات، فللذات على كل ما أوجدته أو صدر عنها التقدم والعلو الذاتي المطلق.

وكما أن للذات العلو اللانهائي المطلق عن الزمان والمكان والأكوان والمدارك والتصورات فكذلك الأمر بالنسبة للوازمها من الأسماء، ولوازم حقيقتها من السمات.

والذات الإلهية لها البساطة المطلقة التامة فلا تركيب فيها، لذلك فلا سبيل إلى إدراك أي شيء عنها إلا ما كان من آثار أسمائها التي هي من لوازمها، فلا تركيب في ذاته سبحانه، وكل ما هو من دونه مركب، إذ لابد له من كيان خلقي وكيان أمري، ولو كان سبحانه مركبًا لسبقت وجودَه أجزاؤه ولكان ثمة حاجة إلى من يجمعها، ولو كان كذلك لكانت أجزاؤه غير ذاته فيكون وجود ذاته محتاجا إلى وجود غيره ولكان لغيره التقدم عليه بما في ذلك التقدم الزماني، والحق هو أن له سبحانه الوجود الذاتي المطلق الذي له العلو والتقدم بكل مقياس أو معيار على كل ما هو من دونه بما في ذلك كافة أنواع الزمان، فالزمان من إبداعه وتقديره، وهو سبحانه المحيط به من كافة أطرافه.

ومما لا ريب فيه أن التصور الذي يقدمه ما يسمى بعلم الكلام أو أصول الدين أو بعض المذاهب الفلسفية عن الذات الإلهية ليس بالصحيح، فأولئك، بصفة عامة، ما نزهوا الله حقّ تنزيهه، وما عبدوا إلا إنسانا مضخما أو معنىً مطلقا مجردا أو ذاتا ساكنة جامدة، وما عبدوا الإله الحيَّ الفعال الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا.

فالإله طبقا لآيات الكتاب العزيز هو إله يتسم بالحياة والأسماء الحسنى والفعالية المطلقة ويرتب بعض أفعاله على أفعال عباده فيثيب المحسن ويعاقب المجرم، فثمة تفاعل حي وديناميكي بين الرب وبين العبد لا سبيل إلى إنكاره.

والربّ هو الذات من حيث تجليها بالسمة التي تستخدم المخلوقات لتحقق بهم مقاصدها الوجودية، فعبودية الإنسان لربه هي عين كونه مستخدَمًا لتحقيق المقاصد الوجودية، ولذلك خلقه، والإنسان بكافة أطواره وأفعاله هو من لوازم تحقيق ذلك، ويبقى الإله رغم كل ذلك على ما هو عليه، فمجال التفاعل ومحل آثاره هو العبد وغيره من المخلوقات، أما الربّ سبحانه فهو باقٍ على ما هو عليه   Immutable.

وطبقا لما يقدمه القرءان فإن الله سبحانه ما خلق كائنا إلا بالحق، وهو رقيب عليه ومعتنٍ بأمره ولم يتركه أبدًا سدى مهما هان في نظر الآخرين شأنه، أما الذين لا يبالي بهم فهم الذين لم يبالوا في حياتهم به، ولم يرتبوا أي أمر في حياتهم على الإيمان بوجوده، ولكن ذلك هو من حيث المرتبة الدينية الشرعية التي اقتضتها منظومة أسماء الرحمة والإرشاد والتشريع التي مجالها الكائنات المخيرة، أما على المستوي الكوني الوجودي فهو معتنٍ بكل ما خلق وآخذ بناصية كل ما خلق، أما الصورة التشبيهيـة التي يقدمها له عباد الأسلاف والحشوية وأضرابهم فإنما كانت تكبيرا للصورة التي ألفوا عليها سلاطينهم وخلفاءهم، ولقد ضحوا بجلّ ما جاء في القرءان في سبيل التمسك بالصورة التي صاغها لهم أسلافهم والتي لا تليق أبدًا بمن له الكمال الذاتي الواجب المطلق والأسماء الحسنى.

وأعلى مراتب الذات الإلهية هي تلك التي يكون فيها الوجود هو الكينونة هو الكمال الذاتي الواجب وهو الحسن المطلق وهو الماهية أي الحقيقة الذاتية، والمقصود بالوجود هنا حضوره سبحانه بذاته لذاته، ووجدانه لذاته بذاته، فذلك الأمر فوق كل إدراك وتصور، ولا قبل لملك أو إنسان بإدراك شيء عن تلك المرتبة وليس لدى الإنسان أصلًا من الحواس أو اللطائف أو المفاهيم والألفاظ والإمكانات ما يمكنه من ذلك.

ولكل المراتب الذاتية العليا الإحاطة بالزمان ولقد كانت قبله ولها الحكم عليه، وإنما كان الزمان الأصلي من مقتضيات تتابع التجليات والتنزل وتفصيل الكمالات، أما زمان هذا العالم فلقد نشأ معه مرتبطًا بالمكان كإطار لازم لفتق النواة الكونية الأصلية، ولقد عُلِّق هذا الإطار بالمكونات المادية وحركتها فلا انفصال لذلك الإطار عن تلك المكونات ولا وجود له ولا لها بدونها أو بدونه، والزمان يستند إلى تتابع التجليات وتنوعها وكون بعضها أعظم إحاطة من الأخرى أو أكثر إحكاما منها وكون بعضها تنزلات للأخرى، وكان لابد منه لأنه لا يمكن لعالم أو كون ولو كان لا نهائيًّا من إظهار كل تفاصيل الكمال الإلهي المطلق..

وكل ما يمكن قوله فيما يتعلق بالمراتب الذاتية هو محاولات قلبية لإدراك الأمر استرشادًا بالقرءان الكريم وتذوق بعض آثار آثارها إذ لا قبل للإنسان المحدود المقيد بإدراك اللانهائي المطلق لأنه من حيث طبيعته الذاتية لا يدرك إلا الأمر المفصَّل من حيث أنه هو الأداة المثلى اللازمة للتفصيل.

ولقد كان هو سبحانه في المراتب المشار إليها عليما بذاته وبحقيقته الذاتية والتي هي هاهنا عين الحسن المطلق وكذلك عليما بكل لوازمها من سمات الكمال، وكان علمه عين ذاته بمعنى أن ما علمه كان هو الذات نفسها فكان هو العالم والمعلوم.

والسمات التي علمها لذاته في تلك التجليات هي سماتها الذاتية التي هي لوازمها ولا انفكاك لها عنها، فهو العليم، وعلمه هاهنا هو عين الذات بالمعنى المشار إليه هاهنا وبمعنى بأنه ليس بحاجة إلى أجهزة أو آلات لتحصيل العلم أو المعلومات، ثم تتابعت تجلياته الذاتية لنفسه بنفسه وفق ما علمه بها فكانت حضرات التجليات الذاتية الواجبة والمسماة بالأسماء العظمى، وكان منها تجل متقدم عليها وله الاحاطة بها هو الاسم الأعظم.

ثم تتابعت التجليات التي كانت تفصيلا لذلك الاسم الأعظم من حيث تميزها بظهور سمة محكمةٍ ما ظهورا يفوق ظهور السمات الأخرى، فبذلك الظهور تميزت الأسماء ومن ثمَّ تميزت السمات إذ لا تميز لها في حضرة الإحكام السابقة أو البطون السابق، فلا تميز إلا بالظهور ولا ظهور إلا بتميز الأسماء من حيث السمات، فالاسم الذي يكون للسمة العلمية فيه السبق والتقدم على السمات الأخرى هو الاسم العليم مع استمرار وجود كل السمات الأخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق