ذكر الله: ركن أركان الدين ومقصد المقاصد
مقدمة
الذكر
ليس مجرد عبادة قولية تُمارس بالألفاظ، بل هو مظهر من مظاهر إقامة الصلة الوثيقة
بالله، ووسيلة لتحقّق الإنسان بمقصده الوجودي الأعلى. إن إدراك منزلة الذكر في
الدين، وبيان أثره في تربية النفس وتحقيق حضور القلب مع الله، يمثل إحدى الركائز
العرفانية الكبرى التي لا يستغني عنها السالك في طريق العلم بالله.
أولًا: الذكر في بنيان الدين
إن
من أخطر ما يبتلى به العقل الديني أن يتعامل مع الذكر كمجرد فرع من فروع التعبد،
أو كحالة مؤقتة عارضة تُستحضر في أوقات الشدة وتُغفل في مواطن الرخاء. بينما
الحقيقة أن الذكر في نظام دين الحق ركنٌ جوهريٌّ من أركان الدين، يُقام به الدين
وتُتحقق به مقاصده.
بل إن الذكر ليس
مجرد أحد الأركان، بل هو ركن أركان الدين، وهو الغاية التي تلتقي عندها
العبادات والمعاملات، والسياسات والمناهج، والأوامر والنواهي، بل هو المقصد من كل
أوامر الدين، ومن أركان الدين الكبرى، قال الله تعالى:
{وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]
فجعل
الذكر غاية إقامة الصلاة
وهو
الوسيلة ليكون الإنسان عند الله بمكان:
{فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]
وهو ملزم للإنسان في كل أحواله:
{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعا
وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن
مِّنَ الْغَافِلِين} [سورة الأعراف: 205]
{فَإِذَا
قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 200]
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]
ومما
يبين أهمية الذكر أن التذكر الذي هو وسيلة للتحقق بالذكر، هو نفسه المقصد من
التشريعات وسريان السنن وظهور الآيات الكونية وتبيين وتفصيل الآيات القرءانية، قال
تعالى:
{وَلاَ
تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن
مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى
يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ
أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ
وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُون} [سورة البقرة: 221]
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ
وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ
كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُون} [سورة الأنعام: 152]
{يَا
بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا
وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُون} [سورة الأعراف: 26]
{وَهُوَ
الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا
أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ
الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [سورة الأعراف: 57]
{إِنَّ
رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن
بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُون} [سورة
يونس: 3]
وقد
جعل قلة ذكر الناس لله من علامات نفاقهم:
{إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى
الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ
إِلاَّ قَلِيلا} [النساء:142]
ثانيًا: ماهية الذكر ومقامه
العرفاني
الذكر
في حقيقته هو حضور الوجدان مع المذكور، وترجمة هذا الحضور إلى التزام عملي
نابع من صدق الإحساس، لا مجرد ترديد لساني أو خيال ذهني.
وإذا كان
التذكّر هو مجهود النفس في استدعاء الحضور، فإن الذكر هو الحضور ذاته، ولذلك
قُدّمت الأوامر بالتذكّر في القرءان لتحقق الذكر.
ولذلك
كانت الغفلة عن ذكر الله من كبائر الإثم، وكان اجتناب الغافلين وقاية لازمة لكيان
الإنسان الجوهري:
{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ
تَضَرُّعا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ
وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِين} [سورة الأعراف: 205]
بل
إن الغفلة عن الله وآياته والتكذيب بها من أسباب الهلاك العاجل في الدنيا:
{فَانتَقَمْنَا
مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا
وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِين} [سورة الأعراف: 136]
{سَأَصْرِفُ
عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن
يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ
لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِين} [سورة
الأعراف: 146]
ومن
بعد ختم الرسالة أصبح هذا الهلاك يتحقق على المستوى الجوهري الباطن.
ومن
تحقق بالذكر، تحقّق بالخلافة، لأن الذكر هو مقام الأمانة، وقد كانت ملة إبراهيم
قائمة على التوحيد، والذكر أحد أبرز مظاهر هذا التوحيد.
ثالثًا: الذكر بين الوسيلة
والغاية
يُعدّ
الذكر في نظام دين الحق وسيلة كبرى لإقامة صلة دائمة بالله، ولذلك لم يكن موقّتًا
بزمان، بل طُلب الإكثار منه على الدوام:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41-42]
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا
وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ
النَّار} [آل عمران:191]
وإذا
كان الذكر وسيلة، فهو أيضًا مقصد، لأنه يستبطن أعظم الغايات: الحضور مع الله،
ودوام استحضاره في الوجدان، وإقامة صلة وثيقة به، وما يتبع ذلك من أعمال ومواقف
وسلوكيات، ومن كان في الذكر دائمًا، كان في معية الله الخاصة أبدًا:
{فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ}
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا
أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}
رابعًا: الأذكار بوصفها مفاتيح
عرفانية للأسماء الإلهية
من
أعظم تجليات الذكر، ذكر الله بأسمائه الحسنى، فهو ذكر ينقلك من الحضور المجمل إلى
الذوق المفصل، ويجعل الذاكر متعرضًا لأذواق الأسماء وتأثيراتها التكوينية في نفسه
ووجوده.
وقد جعل الله في
الأسماء الحسنى مفاتيح للقلوب، وبها يُذكر، وعليها تُقام صلة القرب. قال تعالى:
{وَلِلَّهِ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]
وكل
من أقام ذكرًا متصلًا باسم من الأسماء، استجلب به معانيه، وتخلّق بأثره، وتحلى
بهديه، وسعى في الكون بتأييده.
خامسًا: الذكر والأثر العملي في
النفس والوجود
ليس
الذكر مجرد شعور وجداني معزول، بل هو فعل يثمر أثرًا باطنيًا وسلوكيًا في النفس.
من آثار الذكر:
- طهارة
القلب:
الذكر يطرد
الغفلة، ويجلو الصدأ عن القلب.
- دوام
الصلة بالله:
من أقامه
بصدق، صار قلبه معلقًا بالله في كل حال.
- القوة
على مواجهة الشهوات والفتن:
إذ الذاكر
مستحضر لعظمة الله، فلا يجرؤ على مخالفته.
- رفع
الذكر في السماء والأرض:
- جلاء
القلب وتحرير الوجدان
من ركامات السهو والتشوش؛
- تفعيل
طاقات النفس اللطيفة،
ورفعها من المدار الغريزي إلى المدار التوحيدي؛
- التحصين
الوجودي من الفتن
والانجذاب إلى مراكز الجاذبية الكونية الزائفة؛
- تفعيل
التوحيد العملي
في القول والعمل، لأن الذاكر لا يعبد مع الله أحدًا
- فتح
أبواب التزكية والولاية،
بما يهيئ النفس لاستقبال الفيض الإلهي عبر الأسماء
خاتمة
الذكر
في ميزان دين الحق ليس نافلة تُضاف إلى الفرائض، بل هو صميم الفريضة، ومُحرّك
المعنى في كل عبادة وسلوك. ومن لم يقم للذكر مقامه، لم يتحقق بما يلزم من العلم
بالله، لأن الذكر هو المعبر الأول عن هذا العلم، والسراج الذي به يُستنار في ظلمات
النفس والوجود.
ومن
ذَكر الله كثيرًا، ذَكره الله كثيرًا، وكان عنده مذكورًا في السماء والأرض، سائرًا
بنور الأمانة، متحققًا بمقام الخلافة.
فالذِكر،
في ضوء الرؤية العرفانية لدين الحق، ليس مجرّد عبادة تكميلية، بل هو من أعمدة
الدين الكبرى، ومن مقاصده العليا، ومن سننه التكوينية التي بها يُستعاد التوازن في
النفس والعالَم.
وإن
تخفيض مقام الذكر إلى العادة اللسانية أو المقولة المكرّرة، يُعدّ حجابًا عن سرّه،
وظلمًا لمكانته، وحجزًا للإنسان عن مقام الحضور. فكل ما في الدين، من شريعة وعبادة
ومعاملة، إنما يُقصد به الذِكر، ويقود إليه، ويستمد روحه منه.
ومن
أقام الذِكر مقامه، فقد أقام الدين كله في قلبه، وصار مذكورًا عند الله، كما قال
تعالى:
{فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ}
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق