الجمعة، 27 فبراير 2015

الوجــود

الوجــود


إذا كان الوجود هو تحقق الشيء بحيث تصدر عنه آثار في العالم الخارجي فإن هذا الوجود هو أمر مشترك بين كل الكائنات الواقعية، ولكن هذا لا يعنى أن الوجود المطلق هو مادتها التي صيغت منها ولا أنه ذات ظهرت مقيدة بماهيات تلك الكائنات، ذلك لأن التحقق ذاته معنى من المعاني ولابد من كائن اقتضاه وأعطاه معناه، فالتحقق هو معنى من المعاني، ومع ذلك فهو المعنى الذي يؤدى إلى ظهور غيره من المعاني، والمعنى الأفضل منه للتعبير عن حقيقة الأمر هو الكينونة، والكينونة معنى محكم من تفاصيله التحقق والواقعية والتعين، أما وجود الشيء فمترتب على أن له كينونة حتى ولو لم يكن مستقلا بالوجود أو داخلا في تكوين شيء آخر.
أما تحقق أي كائن فهو عبارة عن اقتران ماهية الكائن بالمواد اللازمة لها بحيث تظهر عنها آثار معبرة عن تلك الماهية، فهو ارتباط بين كيان أمري وبين كيان خلقي، لذلك فلابد من مقدِّر ومن خالق، أو هو صياغة مجموعة من المواد وربطها ببعضها وفق نمط مقدر هو تفصيل الماهية أو الماهية بعد تقديرها، ولابد هنا أيضا من مقدر ومن خالق، ولابد من استناد كل الكائنات إذاً إلى كائن تكون حقيقته الذاتية هي عين كيانه الذاتي أي عين كينونته، وعين كينونته تلك هي عين وجوده لنفسه، فلهذا الكائن إذاً الكينونة الذاتية الواجبة التي يستند إليها كل شيء وجوديا ومنطقيا وواقعيا.
فوجود كائن ما يستلزم أن يكون ثمة ماهية مقترنة بما يلزمها ويلائمها من مواد بحيث يكون الكيان الناتج تحقيقاً لتلك الماهية في العالم الملائم ويكون ما يصدر عنه من آثار من مقتضيات تلك الماهية، والماهية المقصود بها حقيقة الشيء وليس ما لدى الإنسان من تصور عنه.
--------------------
إن استخدام المصدر (وجود) يشير كثيراً من المشكلات فإن الفعل (وجد) في العربية لابد له من فاعل ومفعول، فالشيء الواقعي الذي له كينونة يجده كائن آخر فيكون بالنسبة إليه موجودا ولم يكن كذلك بالنسبة إليه من قبل، لذلك فوجود الشيء الخارجي هو أمر نسبى، فوجود الشيء هو تحققه بحيث يكون قابلا لأن يدرك ولكي يصدر عنه ما يتناسب مع حقيقته.
ووجود الشيء هو أمر نسبى، فلابد من كائن واجد، ولابد أن ما يجده من الشيء سيكون معتمدا على الطبيعة الذاتية للواجد، وكينونة الشيء الموجود سابقة على وجوده بالنسبة للواجد، فكينونة الشيء هي ما يعبر عن الشيء في ذاته.
*******
إن إنكار وجود الشيء الخارجي يتضمن مخالفة لغوية ومنطقية، ذلك لأن كلمة وجود تتضمن أن ثمة واجدا هو من وجد الشيء وليس من أوجده أو خلقه فصار بالنسبة إليه موجودا فكيف يجده وينكر وجوده في نفس الوقت، وهذا الوجود هو بذلك نسبى ولكن نسبيته لا تقدح في وجوده، أما إن أريد بالوجود التحقق أو الكينونة Being فلا شك أن للشيء الخارجي كينونة وإلا لما كان له آثار على حواس من وجده ولو بتوسط عامل آخر، وكل ما هو موجود أو متحقق هو آلة بيد من له الكينونة المطلقة يفعل بها ما يشاء ويكلم بها ما يشاء ويوحى بها إلى من يشاء وإن كان لا يفعل بآلة إلا ما هو متسق مع مقتضيات حقيقتها الذاتية.
والكيانات التي لا تتضمن في ماهياتها الذاتية زمانا أو مكانا أو كيانات فرعية مرتبطة بهما لا يقال إنها تحل في العالم الزمكاني، ومن ذلك الكيانات المعنوية، أما إذا شوهدت أو أدركت فيه فإنما يكون ذلك بواسطة كيان يمكنه الإحساس بها، وإذا ما حدث إحساس بها بواسطة إنسان مثلاً فإنما أحس بها بواسطة كيان ملائم لها ثم أسبغ عليها قلبه صورة مكونة مما لديه من صور مختزنة، وهي عند ذلك تشاهد مقيدة وفقاً لطبيعة الإنسان، فتلك الصورة ذات علاقة ما بها ولكنها أيضا أمر ذاتي للإنسان وليست هي.
*******
يقال إن الشيء موجود أو إن له وجوداً إذا كانت له كينونة ما وإذا كان متحققاً بحيث تصدر عنه آثار تكشف عن خصائصه وطبيعته، وهذا يقتضي ويستلزم أن يكون له قابلية ما أو فعالية ما، ووجود الكائنات هو وجود نسبي مقيد وليس بوجود ذاتي إذ لابد من استناده إلى الوجود الحقيقي المطلق الذي هو للحق سبحانه، ولا جدوى من القول بأن الوجود من حيث هو وجود واحد لأن هذا القول ليس إلا تحصيل حاصل وهو متحقق بالنسبة إلى كل أمر.
ولله تعالى وجوده الذاتي المطلق وذاته موجودة من حيث أنه هو يجدها ويعيها ويدركها الإدراك اللائق ومن حيث أن له كينونة ذاتية مطلقة، ولكن هذا لا يعني أن وجوده هو عين وجود الأشياء كم ظن دعاة مذهب وحدة الوجود بل هو مبدعها وخالقها، ولا يجوز إنكار وجود الأشياء وإنما يجب الإقرار بأنه ليس لها من وجود ذاتي، وغض النظر عن وجودها مقارنة بوجود خالقها هو وسيلة من وسائل التزكية ودواء يتعاطاه الإنسان حتى يزاد إحساسه بالحضور الإلهي، فإذا ما بلغ ذلك الإحساس قدراً معلوما فلن ينشغل الإنسان بالأشياء عن ربه حال قيامه بمهامه.
والوجود ليس عالما يدخل فيه من كان معدوما فيصبح موجودا، وإنما هو ما يترتب علي صياغة المواد الملائمة وفق ماهية مقدرة هي أمر واحد محكم فيكون ثمة كائن موجود أو كائن له كينونة ويترتب علي ذلك تفصيل الماهية أي ظهور الصفات التي هي من لوازمها والتي يمكن أن يقال إن باجتماعها بمقادير معلومة كانت الماهية رغم أن الماهية هي أمر واحد محكم هو أكبر مما يتضمنه أو مما يمكن أن يفصل إليه من صفات، والكيان الناتج لا يؤثر علي الماهية الأولية التي تظل كما كانت عليه، وإنما يمكن بالنسبة للإنسان أن يتغير بالنسبة إليه ما يناظر الماهية مع ثبات الأنية.
أما الله سبحانه وتعالي فإن كنهه الذاتي لا سبيل إلى إدراكه، ولا سبيل لمخلوق مهما علا شانه إلي ذلك الإدراك لأنه لا توجد لدي كائنٍ ما حاسة ظاهرة أو باطنة تستطيع أن تميز هذا الكنه إذ له سبحانه اللطف المطلق والبساطة المطلقة، لذلك فإنه سبحانه من حيث الكنه لا يطالب بالماهية ولا بالكيفية، ولكنه سبحانه له مع ذلك ماهية وله وجود وكينونة بمعني أن له سمة ذاتية يمكن السؤال عنها بهذا السؤال ما هو؟ والجواب هو ما تحدث به عن نفسه: {هُوَ الله أحَد، هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم، هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم، هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيم، هُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّار ... الخ}، فالماهية هي السمة المحكمة التي يشير إليها لفظ الجلالة وهي الحسن الذاتي المطلق الذي تفصيله هو كل الأسماء الحسنى، أما وجوده فلم ينتج من اقتران مادة بماهية وإنما هو وجود محض وكينونة مطلقة من لوازمها الأحدية الصمدية.
*****
إن كلمة الوجود بالمعنى الذي آلت إليه لم ترد في الكتاب العزيز، وإنما ورد أن الأشياء أو الأمور تتحقق عن قوله سبحانه "كن"، فالموجود هو في الحقيقة من له كينونة، أي أن المصطلح القرءاني الذي يقابل الوجود هو الكينونة.
ويجب التمييز بالنسبة لكائنٍ ما بين الكينونة والتي قد يسميها البعض بالوجود وبينه كموجود، فالكائن من حيث هو موجود هو أمر نسبي مقيد بصفة عامة، فالموجود لابد له من واجد، وهذا الواجد سيكون متأثراً في ذلك بما لديه من قدرات وملكات وإمكانات وتصورات مسبقة، فالموجود هو عين الصورة التي لدى الكائن الواجد عن الكائن، فبالنسبة للإنسان الذي ينظر إلى شيءٍ ما فإن الشيء من حيث هو موجود هو عين الصورة القلبية التي تكونت لدى الإنسان، أما الكينونة فهي حقيقة الشيء غير المقيدة بإدراك محدود، فلا شك مثلا أن لكوكب أورانوس كينونة سواء أوجده الإنسان أم لا، فمفهوم الكينونة لا يكافئ مفهوم الموجود (أو الوجود حسب الاصطلاح الشائع فالمصدر يطلق أحيانا على المفعول به أو علي مجال الفعل كما يطلق العلم ويراد به المعلومات)، والحق سبحانه هو الكائن الأوحد الذي تتساوى عنده كينونة الشيء بوجوده فهو يجد الشيء كما هو عليه أي كما يكون عليه، أما بالنسبة إلي الإنسان فإن وجود الشيء الخارجي ليس بالأمر الثابت المحايد إذ لابد من جانب ذاتي، فوجود الشيء الخارجي مكافئ عنده لما لديه عنه، وهو ليس لديه إلا الصورة القلبية والتي هي أمر نسبي مقيد، ذلك لأنها ملونة بحالة الإنسان كإنسان وكذلك بحالته الفيزيولوجية والسيكولوجية الخاصة، وهي كذلك ملونة بما يؤمن به من قيم ومعتقدات وبما لديه من أحكام مسبقة ومعلومات.
*****
والعدم لازم لتفصيل مراتب الوجود، فالوجود المطلق يتضمن كل كمال متحقق وغير متحقق وكذلك كل ما هو ممكن من حقائق وماهيات، والنقص اللازم لتفصيل كل مرتبة وقصور الكيانات عن احتواء كل الكمال أو تمثيله هو عين العدم؛ فالعدم لازم لتفصيل مراتب الوجود وما انطوي عليه من الكمالات.

**********



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق