الأربعاء، 18 فبراير 2015

آل عمران 18-19

آل عمران 18-19

{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)}آل عمران

الله هو الأولى بالشهادة لنفسه بما هو له، وهو يشهد لنفسه بالحقيقة الوجودية العظمى؛ لا إله إلا الله، فهو وحده الذي له المثل الأعلى والسمة العظمى المفصلة إلى ما لا يتناهى من السمات، والتي استحق بها هو وحده أن يعبد، فهو رب كل شيء ووارثه ورازقه وراحمه، وكلما ارتقى الكائن كان أكثر إدراكا وعلما وتحققا بهذه الحقيقة والعمل بمقتضاها، فالملائكة مفطورون عليها، ومن لديهم العلم الحقيقي يعلمونها العلم الذي يدفعهم للعمل بمقتضاها وأداء حقوقها، والعلم بمعاني هذه الحقيقة والعيش وفق هذا العلم هو السبيل إلى الحرية الحقيقية، وهي تتضمن التحرر من كل ما يجذب الإنسان إلى الأسفل ويكبله ويبعده عن مصدر وجوده.
ولأنه لا إله إلا هو فهو يقوم بالقسط، ولذلك يأمر بالعدل وبأداء الأمانات إلى أهلها، ذلك لأنه هو الحق وقوله الحق وحكمه الحق، ثم خُتمت الآية بالمثنى "الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"، ذلك لأنه من أعظم الأسماء سطوة، وذلك للدلالة على أنه لا يوجد ما يحول بينه سبحانه وبين الانفراد بالألوهية ولا بينه وبين القيام بالقسط، وذكر الحقيقة { لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} مرة ثانية بعد الشهادة المشار إليها لكي يعلم الإنسان أن من الواجب عليه أن يذكرها وأن يعيها وأن يكررها في نفسه حتى يتحقق بها، ومن الأذكار النافعة للإنسان أن يذكرها مع المثنى المصاحب لها فيشتد تأثيرها الإيجابي على كيانه الجوهري.
ويلاحظ التنويه بشرف أولي العلم بذكرهم مع الله وملائكته وإقامة الحجة على الناس بشهادتهم، وبذلك يعلن القرءان أن العلم هو قيمة كبرى، وهو بالطبع من أركان المنظومة المعنوية الإسلامية، وطلبه هو من لوازم ركن تزكية النفس ومن سبل تحقيق مقاصد الدين، والإنسان مأمور بطلب الزيادة منه، والعلم هو من القوة الواجب إعدادها لإلقاء الرعب في قلوب أعداء الله المجاهرين بالعدوان.
ومن لوازم ما هو مذكور في هذه الآية أن يخضع الإنسان لإلهه وأن يُخبت له وأن ينقاد له وأن تكون صلاته ونسكه ومحياه ومماته له، وكل هذا من تفاصيل ولوازم الإسلام بمعناه الحقيقي، لذلك كان الدِّينَ عِندَ اللّهِ هو الإِسْلاَمُ، وكلمة "دين في اللغة تعني الجزاء والحساب، ولذلك فمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فمن أبى الإسلام فقد رفض الإقرار بالحقيقة الوجودية العظمى وتشبث بالباطل أي بالعدم؛ فمثله كمثل من كان على جرف هار وتدلى له حبل يمكن له بالتعلق به أن ينجو ولكنه أبى وأصر على التشبث بحبل لا وجود له إلا في خياله، فهل هنالك من يمكن أن يبوء بالخسران مثله؟
إن الدين عند الله هو واحد، وهو الإسلام، فهو دين الفطرة، وهو الدين الذي دعا إليه سائر الأنبياء المرسلون أقوامهم، فمن آمن بهم كانوا مسلمين، فكل من اتبع الصحيح الذي أتى به نبي مرسل هو بالضرورة مسلم، ولكن هذا الدين كان يتطور وينمو باطراد النمو البشري على المستوى الجوهري، وكان هو أيضا محفزاً لهذا التطور وداعيا إليه، ولقد بدأ هذا الإسلام رسميا بإبراهيم عليه السلام وبلغ ذروتين برسالتي موسى وعيسى عليهما السلام، ثم بلغ ذروة كماله برسالة النبي الخاتم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وبتلك الرسالة أيضا تم تطهير الدين من إلقاءات الشياطين ومن تحريف الغالين، فلا يجوز إطلاق لقب الإسلام على ما هو دونه من الأديان، فليس ثمة دين بالمعنى المقبول عند الله الآن إلا الإسلام كما هو ماثل في القرءان.
وثمة أمر أحدثه بعض المبطلين والمضلين وهو اعتبار اليهود والنصارى مسلمين، والحق أنه بعد ختم النبوة واكتمال الدين لا يجوز إطلاق هذا الاسم إلا على من آمن بالنبي الخاتم ورسالته، والتي تتضمن الصحيح والباقي الذي لم يُنسخ من كل الرسالات السابقة، فمن كفر برسالة النبي الخاتم هو كافر لا محالة، هذا بالإضافة إلى كفرهم لاعتناقهم عقائد باطلة فيما يختص بالله وكتبه ورسله فضلا عن شركهم بقولهم بالثالوث أو باتخاذهم الأحبار والرهبان ورجال الكهنوت أربابا مشرعين في الدين، ومع ذلك فهم أفضل ممن أنكر الإله والنبوة والرسالات إنكارا مطلقا، لذلك فاسمهم الرسمي بالنسبة للمسلم هو "أهل الكتاب"، ومن الجدير بالذكر هنا أنه لا يكاد يخلو إنسان من شرك حتى وإن كان محسوبا على الإسلام، لذلك قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون} [يوسف:106]
فاليهود والنصارى هم أهل كتاب، هكذا سمَّاهم الله تعالى في القرءان، وقد أمر الله ببرهم والإقساط إليهم رغم رفضهم للرسالة الخاتمة والدين الكامل ورغم أخطائهم في حقه هو باختلاق شركاء له في ألوهيته، وقد أعلن أن الفصل في أمرهم مرجأ إلى يوم القيامة، أما من يزعم أنهم مسلمون بسوء تأويله للقرءان فهو ضال مضل ومخطئ في حق الله وكتابه ورسوله، وله موعد مع ربه لن يخلفه، ومن أركان الدين دعوة كل من ليسوا مسلمين إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن وبتقديم الأسوة الحسنة، ومن يقل بأن غير المسلمين هم مسلمون فهو لم يفقه شيئا عن معاني الإسلام العديدة الواردة في القرءان ويقوض ركن الدعوة إلى الله، وبالطبع لا جدوى من الجدل مع الضالين الجدد فهم أشد تعصبا لباطلهم من الدواعش والجواحش والفواحش.
وقد أعلن الله تعالى في القرءان ضلال أهل الكتاب وشركهم وكفرهم (الجزئي بالطبع)، وبيَّن ذلك بكل وضوح، ولكن المضلين الجدد مصرون على الكفر بكل القرءان متشبثين بآية أساؤوا تفسيرها، والإسلام يقر بالتعايش السلمي بين الناس، ولكن ليس معنى ذلك إقرار الباطل والكفر والشرك.
ومن المعلوم أن أكثر المضلين الجدد لا علاقة لهم بالدين أصلا، ولا يفقهون شيئا عن المعنى الحقيقي للدين ويتصورونه مذهبا اجتماعيا أو أيديولوجية سياسية.
ولا يجوز لأحد أن يدجِّل على الناس بالتلاعب بالمصطلحات، فكلمة "إسلام" لها معناها اللغوي الأصلي، فالإسلام بالمعنى اللغوي يتضمن الانقياد والإذعان والاستسلام، ولكن لكلمة "إسلام" أيضا معناها الاصطلاحي، وهي تطلق على كل من آمن بالرسالة الصحيحة لرسول من الرسل، ولذلك ينفرد بها الآن من آمنوا بالنبي الخاتم ورسالته، لذلك من الدجل والفجر الوقح والضلال المبين أن تُطلق على من آمنوا بدين شركي محرف أو كفر بالنبي الخاتم ورسالته بل وقذفه بأبشع الأوصاف والاتهامات.
ومشكلة الذين أوتوا الكتاب أنهم اختلفوا في العلم الذي جاءهم، والعلم هو الرسالة المحمدية، وهو أيضاً علمهم بأنها الحق، وما ذلك إلا لخبث طويتهم ولأنهم يحسدون الناس على ما آتاهم من فضله، ولا يستفيد من العلم العلوي إلا من كان طيب النفس نقي السريرة يدين بالولاء للحق ويبحث عنه ليتبعه.  
والعبارة {بَغْياً بَيْنَهُمْ} هي لغويا مفعول لأجله، وهي تشير إلى سبب الاختلاف؛ ألا وهو البغي، وهذا هو ما دفعهم إلى الكفر بالرسالة الخاتمة التي هي آيات من الله، وما بغوا إلا بينهم وعلى أنفسهم، ذلك لأن الله تعالى غنيّ عن العالمين، لذلك خُتِمت الآية بالوعيد ولتهديد الشديد الوارد في العبارة: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، والقول {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} قائم مقام جواب الشرط وبيان بأن الجواب هو من مقتضياته ولوازمه، فالمعنى هو: "ومن يكفر بآيات الله فإن الله محاسبه ومعاقبه، ذلك لأن الله سريع الحساب"، وهذا يعني أن الحساب سيتم فورا في هذه الدنيا، فكفرهم بآيات الله تعالى يؤدي إلى تدهور حالة كيانهم الجوهري بخطئهم ولخطئهم في حق ربهم الذي خلقهم، أما الحساب في الآخرة فهو ظهور الحالة المزرية للكيان الجوهري لكل واحد منهم، وذهابهم إلى دركات النار التي هي أولى بهم.


*******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق