الخميس، 19 فبراير 2015

الإيمـان

الإيمـان

الإيمان أساسا هو التصديق بخبر غيبي واطمئنان النفس إلى صدق هذا الخبر، يضاد هذا الإيمان تكذيب الخبر وإنكاره، وهذا الخبر هو خارج نطاق حواس الإنسان؛ فهو خبر غيبي، هذا هو المعنى اللغوي، وهو معنى محايد، فقد يكون الخبر حقا وقد يكون باطلا، قد يكون صحيحا وقد يكون خطأ.
أما إذا ظهر لك ما كنت تؤمن به؛ أي انتقل من غيب إلى شهادة، فإنه يدخل في نطاق العلم والمشاهدة، فأنت قد تؤمن بوجود شخصٍ ما لأي سبب من الأسباب، فهو يظل في مجال الإيمان طالما لم تره، فإذا ما ظهر أمامك فقد انتقل من مجال الإيمان إلى مجال الرؤية والعلم والمشاهدة، فلا يصح أن تقول له إنك مؤمن بوجوده أمامك، ولكن يمكنك القول: كنت أؤمن بأنك موجود، وأنا الآن أعلم أنك أمامي أو أراك أو أشهدك أمامي.
والإيمان الذي يمكن أن يُعوَّل عليه وأن يكون مناط النجاة هو الإيمان بالغيب المذكور في القرءان الكريم، فهو الإيمان بالمعنى القرءاني الاصطلاحي، فهو الإيمان المعبر عنه بلوازمه في القرءان وفي حديث الرسول، وأول أركانه والذي هو أساس أركان الدين هو الإيمان بالله كما تحدث عن نفسه في القرءان الكريم، وهذا يقتضي أركان عديدة منها الإيمان بالكتاب العزيز وما تضمنه من علوم وبينات وأحكام وأوامر والإيمان بخاتم النبيين، هذا الإيمان لا يتصف به الآن إلا المسلمون، لذلك أفردوا بهذا الوصف في مقابل كل الآخرين في آيات عديدة، منها:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [الحج:17]
ومناط النجاة ليس الإيمان بمعناه اللغوي، ولكنه الإيمان بما ذكره وفصَّله الله ورسوله، وهو ما ورد في القرءان وما يصدقه مما هو منسوب إلى الرسول.
وأركان الدين الكبرى التي هي أيضا أركان القرءان هي:
1.     الإيمان بالإله الواحد الذي له الأسماء الحسنى والشئون والأفعال والسنن الواردة في القرءان الكريم، (والحد الأدنى اللازم للوفاء بهذا الركن هو في الإسلام الظاهري: شهادة أن لا إله إلا الله).
2.     القيامُ بحقوق الكتابِ العزيز بالإيمان به، وتلاوتِه باتِّباعه واتخاذِه إماما وتلاوةِ آياته وتعلمِّه وتعلم ما يتضمنه من الحكمة وقراءته وتذكره وتدبر آياته وتزكية النفس به وتعظيم قدره واتخاذه إماما، وكل ذلك يقتضي اتخاذَه المرجعَ الأوحد في أمور الدين الكبرى والمرجعَ الأعلى في الأمور الثانوية والمرجع المهيمن في كل الأمور التي تضمنها.
3.     الإيمانُ بأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ هو رسولُ الله إلى الناسِ كافة وخاتمُ النبيين والمرسلُ رحمة للعالمين والعملُ على إقامةِ صلةٍ وثيقة به والقيامِ بما يقتضيه ذلك من تعظيم قدره والصلاةِ والتسليمِ عليه وطاعتِه والتأسِّي به والتمسكِ برسالته وسنته.
4.     الإيمانُ بالغيبِ الواردِ في الكتاب العزيز، وعلى رأس ذلك الإيمانُ باليوم الآخر وبكل ما يتضمنه مما أورده القرءان عنه والإيمانُ بملائكة الله وكتبه ورسله والعمل بمقتضى ذلك، ومن ذلك احترامُ وتوقير ملائكةِ الله مثل الحفظة والكرام الكاتبين وعدمُ تكذيب ما ورد في الكتب السابقة مما يكون متسقا مع القرءان الكريم.
فالمعوَّل عليه ليس مطلق الإيمان أو الإيمان بالمعنى اللغوي ولكنه الإيمان بالمعنى الاصطلاحي، لذلك يجب أن يعرف من أراد أن يؤمن بماذا يجب أن يؤمن، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء:136]
فمن لم يؤمن بالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ قد كفر بالضرورة رغم إيمانه بمن يتبعه من الأنبياء وبما هو منسوب إليه من كتاب، ومثل هذا قَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا.
والإيمان بالكتاب الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ يعني الإيمان به كله، وليس فقط ببعضه، فيجب أن يؤمن المسلم بالقرءان كله، ولا يجوز له مثلا أن يكتفي بالقرءان الذي نزل بمكة، ومن قال بذلك هو من الذين كفروا، والآية الآتية تبين حقيقة هؤلاء:
{...أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون} [البقرة:85]
وقد ينكر بعضهم ما ورد في القرءان لمجرد جهله بالمعاني الحقيقية والأصلية للكلمات، فمنهم من ينكر مثلا ما ذكره الله تعالى من أنه خير الماكرين لما لديه من مفهوم غير صحيح عن المعنى الأصلي لكلمة "مكر" فضلا عن معناها عندما تُنسب إلى الله تعالى، ومنهم من يتمسك بتأويل خاطئ لآية أو لجزء من آية مقتطع من سياقه ليحاول أن يضرب به القرءان كله، ومن ذلك ما فعله بعض المجتهدين الجدد لإنكار الشفاعة أو لإنكار خروج المؤمنين العاصين من النار أو لإنكار عالم البرزخ بنعيمه وعذابه أو لإنكار علم النبي بالغيب اللازم لرسالته، مع أن تلقي الرسالة بما فيها هو أعلى أمور الغيب.
والشيء المضاد للإيمان هو الكفر، والكفر هو تغطية مقصودة متكررة تؤدي إلى تغطية وإخفاء شيء ما، والكفر الاصطلاحي المذموم هو محاولة تغطية وإخفاء الحقائق لغرض خبيث، والكفر هو صفة أو فعل مصدق لهذه الصفة، لذلك يرد في القرءان كصفة لبعض الناس، ومن ذلك "كافر، كافرون"، وقد يرد كفعل لهم، ومن ذلك "كفر، كفروا".
فمن يجحد أمرا ذا حقيقةٍ ما فقد عمل بذلك على تغطيته وإخفائه، فهو بذلك يكون قد كفر به، وكلما كانت الحقيقة أعظم وأشد سطوعاً وخطورة كلما كانت جريرة الكفر أفدح وكلما كان ما اقتضاه من أعمال أسوأ عاقبة على كيان الإنسان الجوهري، لذلك فإن أخطر أنواع الكفر ما يتضمن محاولة إخفاء أو إنكار اسم أو شأن إلهي أو سمة إلهية أو حقيقة قرءانية متعلقة بالذات الإلهية أو بعبارة أخري أي عنصر من عناصر منظومة الشئون الإلهية المذكورة في القرءان.
وكذلك كفرَ من أنكر حقيقة دينية أو آية قرءانية أو أنكر منطوقها أو مفهومها أو أي عنصر من عناصر دين الحق المنصوص عليها في القرءان، فقد كفر من أنكر شيئا من أسماء الله وسماته وأفعاله وشئونه المذكورة في القرءان، وقد كفر من أنكر الرسالات والرسل، وكفر من أنكر نبوة الرسول محمد وأنه خاتم النبيين والمرسل رحمة للعالمين وكفر من أنكر كل فضيلة هي له، وكفر من أنكر البعث واليوم الآخر.
فللكفر درجات عديدة، وأغلظ هذه الدرجات وأشدها خطرا هو الإنكار المطلق لوجود إله ورب للعالمين، ويلي ذلك الكفر ببعض أسمائه أو سماته أو أفعاله المذكورة في القرءان الكريم وكذلك إنكار أية آية من آيات القرءان الكريم.
والكفر هو صفة، وأفعال بمقتضى هذه الصفة تصدقها وتؤكدها، لذلك يرد في القرءان مصطلحات وعبارات مثل: الكافرون، الذين كفروا، الذي كفر، من كفر.
والكفر كاصطلاح شرعي هو الموقف الاختياري المسبوق بعلم بالحقيقة والإصرار رغم ذلك على جحودها وإنكارها، فلا يُقال لشخص إنه كافر بالإسلام مثلا إلا من بعد أن يبلغه الإسلام البلاغ الكافي ثم يصر على جحوده وتجاهله وإنكاره، فلا يُسمى الإنسان كافرا إلا من بعد أن تبلغه الرسالة عن طريق نبي مرسل أو عن طريق خلفاء هذا الرسول في تبليغ رسالته.
وكذلك يكفر من أنكر آية إلهية قرءانية أو سعى إلى إبطالها، ويكفر من لم يحكم بما أنزل الله لسعيه إلى إبطال وإخفاء حكم الله، وكان بكفره هذا ظالماَ لنفسه ولغيره، وفعله هذا من مقتضيات فسقه أي فساد قلبه.
والكفر الأخطر هو ما يترتب على العمل بمقتضى صفة الكفر، فإنه بذلك يحاول الاعتداء على حقائق الوجود وقوانينه وسننه.
وفي أمور الكفر والإيمان يجب التمييز بين طرق التعامل في الدنيا مع الكافر أو المؤمن وبين حقيقة كل منهما على المستوى الجوهري.
فالإنسان في الحقيقة لا يؤمن بحقيقة أمرٍ ما، وإنما يؤمن بما لديه من تصور عنه، هذه التصورات نوعان؛ تصورات ظاهرة وتصورات باطنة.
وعلى سبيل المثال: المسلم ملزم بالإيمان بمحمد كرسول نبي وبكل ما ذكره القرءان عنه، هذا هو الحد اللازم للنجاة، ولكن لدي متبعي كافة المذاهب التي حلت محل الإسلام آثار ومرويات وسيرة تعطي لكل طائفة صورة أخرى عنه، هذه الصور متضاربة متناقضة في بعض الأحيان، وداخل كل مذهب هناك مذاهب فرعية، وكل تابع لمذهب ينفرد عن الآخرين بصورة خاصة به، فالأمر مشوب بقدر كبير من الذاتية.
ولكن الأمر الأخطر هو أن تؤدي هذه التصورات إلى الكفر بشيء من حقيقة النبي، والأشد خطورة هو الكفر الفعلي المترتب على هذا الكفر الصفاتي.
وعلى المستوى الدنيوي فكل من أعلن إيمانه بمحمد كرسول وخاتم للنبيين هو مسلم له كافة حقوق المسلم في الكيان المسلم، ولا يجوز لأحد تكفيره.
أما على المستوى الجوهري فنتيجة اختلاف التصورات قد تكون فادحة، وعواقبها قد تكون وخيمة، فأتباع المذاهب الإجرامية الدموية مثلا لديهم تصور خاطئ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يؤمنون به ولا يبغون عنه حولا، وهم لذلك يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض، فهم كفار على المستوى الجوهري وليس على المستوى الدنيوي الظاهري، فيجب معاقبتهم لأنهم مفسدون في الأرض، لا لشيء آخر، ولهم عقابهم الأليم أيضا في الدار الآخرة.
فيجب أن يؤمن المسلم بمحض ما ذكره القرءان عن الرسول النبي محمد، وأن يعقد العزم على أن يؤمن بكل حق تكشف له عنه، ويجب أن يؤمن بأن لكتاب الله الهيمنة على كافة مصادر المعلومات الأخرى، فالإيمان مثلا بأن أُرسل رحمة للعالمين وبأنه على خلق عظيم ينفي بالضرورة كل ما قذفه به السلف الطالح ودونوه في كتبهم واتبعهم فيه الحثالة من عبيد نعالهم.
وخطورة الإيمان بالتصورات الخاطئة أنه يؤدي إلى الكفر بالحق، وعندما يتبين الحق للناس فقلما يتراجع المؤمن بالخطأ عن خطئه، بل سيظل يتمادى فيه، وربما يغلو فيه، فالكبر الكامن في نفوس الناس للجانب الإبليسي في كياناتهم يدفعهم عادة إلى المكابرة والمغالطة والغلو، ولذلك لابد أن يقترن الإيمان ببرنامج عملي لتزكية النفس بالتخلص من عيوبها وصفاتها الذميمة وإكسابها الصفات الحسنة.
وقد قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين} [يوسف:103]
فالآية تنصّ على حقيقة كونية لا ريب فيها: "أَكْثَرُ النَّاسِ لم يؤمنوا ولن يؤمنوا وليسوا بِمُؤْمِنِينَ"، وذلك مهما بلغ حرص الداعين إلى الإيمان ومهما أخلصوا وعظمت جهودهم وجهادهم، إن ذلك نتيجة طبيعية للأصل العدمي للإنسان؛ أي بمعنى آخر نتيجة لكون كل ما سوى الله تعالى هو إعادة صياغة للعدم المطلق، فمجموع كل الأشياء في أي اتجاه أو بعد هو الصفر، والمطلوب من المسلم أن يفقه وأن يستوعب تلك الحقيقة وأن يعمل بمقتضاها؛ فلا تذهب نفسه حسرات عندما يرى مظاهر الكفر من الناس بل ممن يظنهم مؤمنين، فالمؤمنون الحقيقيون قليلون، والمؤمن الكيِّس لا يعول إلا على الحقائق الراسخة وليس على الأماني أو الأوهام أو الأمور المفترضة.
والآية تشير أيضا إلى أنه لم ولن يستحق أن يُلقب بالمؤمن إلا الأقلية، فوجود من كمل إيمانه نادر عزيز.

*******



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق