السبت، 21 فبراير 2015

الفطـرة ج1

الفطـرة ج1

الفطرة هي ما بُرمج عليه الكيان الجوهري الأولي وما لديه من صور قلبية أولية، وهذه الصور مجملة غير مفصلة، ويلزم لتفصيلها وإظهارها العوامل والظروف المحيطة والحث الخارجي.
فالفطرة هي البرمجة الأصلية التي تقبلتها النفس الإنسانية لدي ظهورها بالنفخ من الروح في الجسد، وعملية فطر الإنسان هي شأن إلهي خاص، وهو المشار إليه في قوله تعالى:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الروم30، وكذلك: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} الأعراف172.
وطبقا لتلك البرمجة فالإنسان مفطور علي الإقرار بوجود رب أعلي إليه يرجع وبه يلوذ ومنه يلتمس الأمن وأسبابَ النجاةِ والبقاء، هذه الفطرة هي التي اقتضت غرائز حب البقاء وحفظ النوع والتقديس، لذلك فمنذ فجر التاريخ وفي اشد المجتمعات انعزالا عن التطور الحضاري والاحتكاك بالآخرين كان الإنسان يحاول دائما تلبيةَ نداء الفطرة بالبحث عن ربه في كل المظاهر من حوله ومحاولة استرضائه بشتى السبل، فالفطرة هي البرنامج الرئيس الذي لابد منه للكيان الإنساني واللازم لتشغيل كيانه وإدارته بطريقة سليمة، ولكن لاتساع مدي الحقيقة والإنسانية فإن الإنسان أيضا هو الكائن الوحيد الذي يمكن أن يعمل ضد مقتضيات فطرته ويجلب على نفسه وعلي نوعه الشقاء والتباب.
إن الفطرة هي مقتضي ماهية الإنسان في لوح نفسه، وهي تقتضي صفات معنوية ونوعا من المعرفة الإجمالية المحكمة والتي تكون مركوزةً في القلب أي في الجزء الجوهري المركزي من الإنسان، والإنسان لدى خروجه من بطن أمه لا يعلم شيئا، ذلك لأن العلم مرتبط بالوعي، وإنما يبدأ بالتصرف من حيث الفطرة التي هي بمثابةِ البرنامج الأولي المبيت في الكائن (Built– in Primary Program) وتلك الفطرة لا تعمل دفعة واحدة وإنما تبرز شيئا فشيئا بقدر معلوم وكلما أصبحت الظروف الذاتية والمحيطة ملائمة لإظهارها، ومما يلزم نمو الكيان الجسدي.
وتلك الفطرة من مقتضيات الاسم الإلهي "الفاطر" فهو الذي يحدث العلامات المبدئية في لوح النفس الإنسانية والتي يمكن أن يترتبَ عليها وتُبني كل معرفة بعدية A posteriori knowledge، ومن أعظم ما فُطر الإنسان عليه الإقرارُ بالربوبية للكائن الأعلى، وتلك المعرفة أودعت في النفس البشرية بتجلٍّ إلهي خاص، ولذلك دأب الإنسان في كل زمان ومكان على البحث عما يشبع تلك الحاجة الفطرية، ولذا كان من الخير له ومن أعظم أسباب رقيه الجوهري أن يعبد الله تعالى، فهو إن لم يعبد الرب الجليل قد يعبد الحجر الحقير، وبدلا من أن يسمو إلى أعلى عليين فسيتردى إلى أسفل سافلين، ومن لم يلب تلك الحاجة الفطرية الأصيلة فإن له معيشة ضنكا وسيحشر يوم القيامة أعمي.
فالإنسان مفطور على الدين الحنيف؛ وذلك بمعنى أنه مبرمج على معطياته الأساسية، وهي وجود كائن أكبر من الممكن أن يلوذ به ويجد عنده ما يحفظ له وجوده، وهو مبرمج على أن الأمور تجري وفق نمط ثابت من السنن، ولكل ذلك يلوذ الطفل بأمه ويطلب عندها رزقه ويصرخ عند الجوع وهو على ثقة فطرية بأن صراخه سيُسمع.
ولكن كل ذلك لا علاقة له بالعلم، فالعلم سمة قلبه واعية، والطفل يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئا، ولكنه بالفطرة لديه قابلية للتعلم، والتعليم قد يكون متجاوبا ومتوافقا مع فطرته فيتزكى بذلك كيانه الجوهري ولطائفه العليا وقد يكون مضادا لها فيؤدي إلى تدسيته، هذا بغض النظر عن كون العلم نافعا أو غير نافع على المستوى الدنيوي.
وثمة جانب من الفطرة خاص بكل إنسان على حدة، يتميز به عن غيره وإن أمكن اندراج البشر في نوعيات عامة، هذا الجانب هو مقتضى ماهية الإنسان الأولية، وبمعرفته يمكن أن يتلقى التعليم المتناغم معه فيعظم بذلك فلاحه ونفعه.
*******


هناك 3 تعليقات: