الثلاثاء، 17 فبراير 2015

العقـل ج1

العقـل ج1

العقل هو من الملكات الذهنية للقلب الإنساني، وتطلق نفس الكلمة على النشاط الذهني للقلب مثلما يحدث عادة مع أسماء المعاني في اللسان العربي، والعقل هو مما يميز الإنسان عن سائر الحيوان.
ويسبق عملية العقل مجموعة من الأنشطة الذهنية القلبية التي تقوم بمعالجة المعطيات والبيانات الواردة إلى الدماغ عن طريق الحواس ثم الأعصاب، ويقوم القلب بوعي من أنية الإنسان وتحت إشرافها باستدعاء كل ما يمت بصلة ما إلى الموضوع اللازم عقله إلى الذاكرة الرئيسة، ويصاحب ذلك عمليات حيوية تتم في الدماغ، ثم تبدأ معالجة كل ذلك وإجراء ما يلزم من عمليات ربط ومقارنة وتمييز وتصنيف وتحليل وتصور وافتراض وتخيل وتركيب وقياس واستقراء واستنباط وتدبر وتفكير، وتلك العمليات الذهنية يقوم بها بالأصالة الكيان النفسي الجوهري اللطيف وهو القلب، ولكن يصاحبها ويلزمها بالضرورة عمليات حيوية لازمة تحدث في الدماغ طالما ظلت النفس مرتبطة بالجسم، وكل هذا النشاط الذهني المذكور يهدف إلى عقل الموضوع فهو نشاط غائي، فعقل الموضوع يعني السيطرة عليه والتمكن منه فلا يستطيع التفلت من الإنسان.
ومن حيث الرمز فهو إشارة إلى قابلية لحيازة الخيرات والأنوار والعلو بها والاستحواذ لها، وبه يحدث التعين بعد الإبهام، والظهور بعد الخفاء الاتصال بما هو خير.
*******
إن الفلاسفة وكثير من رجال الدين والمعتزلة يتكلمون عن العقل وكأنه كائن فذ مستقل بذاته، وقد يضعه بعض الأصوليين كأصل بعد الكتاب العزيز وربما قبله في حين يجعله بعض فلاسفة المتصوفة المخلوق الأول، وكثير من الفلاسفة يتحدثون عن العقل كإله أو كشبه إله، والحق هو أن لدى الإنسان ملكات ذهنية أبرزها تلك الملكة وإن كانت هي بحاجة إلى غيرها من الملكات بل إلى الحواس، فالعقل ليس بكائن مستقل بل إن هذا الاصطلاح يعبر عن النشاط الذهني للقلب أو عن الملكة التي بإعمالها يستطيع قلب الإنسان إعادة صياغة المعطيات بلغة مألوفة له يمكنه استيعابها وتمثلها والإفادة منها.
فالعقل بالنسبة إلى الكيانات الأمرية كالمعلومات والقوانين والسنن والمعاني من حيث تمثلها في القلب الإنساني هو كالجهاز الهضمي بالنسبة إلى الأطعمة، وهو أيضاً كنشاط كعمليتي الهضم والمثيل الغذائي معا.
والعقل يبدأ كإمكان واستعداد محض ويتشكل وفق ما يتلقاه الإنسان من كافة مصادر الكيانات الأمرية الممكنة ويبرمج وفق ما ينشأ عليه من أنماط للتعامل مع أمثال تلك الكيانات، ولا يستقبل إلا ما يتوافق معه في لحظته الراهنة إلا إذا كانت لديه مرونة أصلية أو مكتسبة، لذلك فهو يتأثر بالبيئة الأمرية (المعنوية والقيمية والثقافية) المحيطة والتي تتضمن كل هو سائد ومسيطر من القيم والمعاني والوجدانيات وآثار أعمال الإنسان ذاته.
والعقل بحاجة إلى مسلمات أو بينات أو مصادرات يستطيع أن يبنى عليها أنساقه المعرفية ويصطنع موازينه المنطقية، لكل ذلك فلا جدوى ولا معنى بل هي مغالطة لغوية وعلمية ومنطقية أن يعتبر العقل كائنا مستقلا أو أن يقام كسلطة مستقلة حاكمة بإزاء نصوص الكتاب العزيز وما يتضمنه من علوم غيبية.
وكلما كانت المسلمات والبينات التي يبرمج عليها العقل حقانية كلما أمكن للإنسان الحكم الصائب على الأمور، ولا يعنى ما سبق ذكره أن على الإنسان ألا يقيم وزنا لعقله وألا يعول على ما يستنبطه بل إنه من أركان الإسلام أن يعمل الإنسان عقله بل سائر ملكاته الذهنية والوجدانية وذلك من لوازم تحقيق المقصد العظم الثاني، ولكن المطلوب أن يعمل الإنسان ملكاته الذهنية في مجالاتها الطبيعية وهى متسعة بل تكاد تكون لانهائية، فتلك المجالات تشمل الظواهر الطبيعية والآيات والسنن الكونية والنفسية فضلا عن الآيات الكتابية، هذا بالإضافة إلى الأحداث والوقائع التاريخية.
ويجب دائما التسليم بأن الأحكام والاستنباطات التي يصل إليها الإنسان بإعمال عقله أو ملكاته الذهنية يشوبها قدر كبير من الذاتية لأن الإنسان نفسه قد تعينت ماهيته وتشكلت مادته تحت تأثير كل ما سبق وجوده من شروط حدية وابتدائية، لذلك كان لابد من آلية تسمح بتبادل نتائج إعمال الملكات الذهنية الفردية للوصول إلى الرأي الأمثل في كل أمر، ولذلك كانت الشورى في الأمر ركنا دينيا وفرضا لازما على الفرد وعلى أولى الأمر.
*******
إن عقل أمر ما هو في الحقيقة ثمرة النشاط القلبي الذهني المسمى بالتعقل والذي يتضمن بعض الأنشطة الذهنية الأخرى مثل التفكر والتدبر والتحليل والتجريد والتفقه...، وعقل الأمر يتضمن استيعاب كل ما يتعلق به من كافة جوانبه بحيث يمكن نقله للآخرين والإفادة منه، ويطلق العقل عادة على الملكة الذهنية من القلب، وتلك الملكة هي أداة إدراك منطق وسنن الأمور وتذوق البراهين وتمحيصها والحكم عليها، فالعقل هو الأداة المنطقية Logical tool في القلب الإنساني، وبه يمكن للإنسان الانتفاع بحواسه وملكاته وبمعطياتها، فالقلب إذاً هو الذي يمكنه إدراك وفقه وعقل السنن الإلهية والكونية، وهو الذي يستطيع أن يقدر ويقوم الأمور، وهو أداة الانتفاع بالبيان والتبيين.
*******
إن العقل هو الملكة القلبية الجامعة التي بها يستوعب الإنسان ويعي الأمور ويقلبها علي كافة أوجهها وينزلها إلى مستوى إدراكه ويتمكن من صياغة صور ذهنية لها مما هو مألوف لديه من ألفاظ وأفكار وتصورات بحيث يصبح لتلك الصور أثر فعلى فيه لا يستطيع إنكاره أو دفعه ولا يخالف مقتضيات تلك الصورة إلا مغلوبا على أمره، فهو يمتنع طوعا عن بعض الأمور ويقبل على بعضها طوعا، فالإنسان الذي عقل أضرار السم مثلا لا يقدم على تعاطيه طوعا، وإذا كان القلب بمثابة وحدة المعالجة المركزية لكيان الإنسان فالعقل هو بمثابة الوحدة المنطقية والحسابية (Arithmetic & Logic Unit)  بالنسبة إلي القلب.
فعقل الأمر هو المحصلة النهائية لكل الأنشطة الذهنية المتعلقة به، أي محصلة النظر بإمعان في الأمر، وهذه العملية محكومة بمدى قدرة ملكات الإنسان وبما لديه من معارف وعلوم وأنماط تفكير وكلمات ورموز، وكذلك محكومة بالبيئة الأمرية المحيطة به، والإنسان يعقل الأمر عند ما يتمكن من إعادة صياغته وفق ما لديه من مفاهيم وتصورات وأسس ومفردات.
*******
إن العقل هو ما يتم به الاستحواذ والتمكن من معلومة أو كيان أمري، وعقل الأمر هو ثمرة أنشطة ذهنية هي التفكر والتفقه والتحليل، أما النهية أو الحجر فهي ما يقابل ما يعرف الآن بالضمير، فهي جماع تلك القواعد والأسس التي استقرت في القلب وبرمج بحيث يتصرف على هديها ويصعب عليه مخالفتها، فهي العقل مرتبطا بجوانب قلبية وجدانية.
ولقد بيَّن القرءان أن العقل هو نشاط وعمل قلبي، ولكن الناس قد اتخذوا من قديم القرءان مهجورا، قال تعالي:
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الحج46
*******
إن الملكات الذهنية المتميزة هي من أثمن ما لدى الإنسان، فلا يجوز أن يهمل الإنسان استعمال قوى وملكات زُوِّد بها وكرِّم بسببها، إنه لا يجوز الحجر على هذه الملكات حتى في النظر في الأمور الغيبية، إنه باستعمال العقل تمكن الكثيرون في الغرب من رفض كل أباطيل وخزعبلات أهل الكتاب من البولسيين واليهود، وبنفس العقل وصلوا إلى الإقرار بوجود إله مطلق فوق كل إدراك وتصور، وبنفس العقل يرفض المسلم أن يكون لله صاحبة أو ولد ويتقبل قول القرءان ويرفض قول غيره من الكتب المحرفة.
*******
إن القلب هو لب الكيان الجوهري للإنسان وأداة التحكم فيه والسيطرة عليه وإدارته وهو محل الملكات الوجدانية والذهنية أي هي عدته وقواه كما أن له ملكاته الخاصة الجامعة، وهو أداة تذوق الأمور المعنوية والكيانات الأمرية وآثار السمات الإلهية، والملكات الذهنية والتي قد يطلق علي جماعها العقل هي أداة استيعاب ما يراه ويتذوقه القلب، ولا حد لقدرة العقل من حيث هو قابل مدرك مميز ولا حد لقدرة القلب من حيث هو متذوق مشاهد، والحكمة هي الصفة الغالبة علي الملكات الذهنية، بل إن تلك الملكات هي من مقتضيات منظومة الحكمة والعلم بصفة أساسية مع إدراك الارتباط الموجب بين الحكمة وبين العلم وبين كل منهما وبين العزة، ولذلك فُضِّل الإنسان وكرِّم، أما القلب فهو مقتضي كل منظومة الأسماء الحسني بمنظوماتها الفرعية، والإيمان هو المفتاح الذي لا مفر للقلب من التحقق به واستعماله حتى يري الحقائق، ولما كان العقل هو مناط التمييز كان هو أيضاً مناط التكليف، والتمييز خاص بالعقل لأنه مقتضي منظومة أسماء العلم.
والقلب يهدف بالتعقل إلى استيعاب الأمر بإعادة بناء معطيات الحواس وغيرها عنه وتأليف صورة ذهنية له وفقا للأسس التي فطرت عليها تلك الملكة وباستخدام المفردات والمصطلحات التي سبق للإنسان أن عقلها بحيث يمكن للإنسان أن يحتفظ بهذا التصور وأن ينقله إلى غيره، أما الفكر فهو الملكة القلبية اللازمة لإتمام عمل الملكة العقلية فهو من لوازمها وتفاصيلها، فالتفكر هو إمعان النظر وتكراره في الأمر وتصريفه والتحليل والتأليف والفحص والتمحيص والمقارنة بما لدى الإنسان من معارف سابقة ذات صلة بالأمر المنظور والهدف في النهاية هو الوصول إلى عقل الأمر، وإذا كانت ممارسة الكفر تهدف إلى إخفاء الحقائق والأمور فممارسة الفكر تهدف إلى كشفها وإظهارها، أما التدبر فإنه كالتفكير وإن كان يهدف أيضا إلى الإمعان في تتبع ومعرفة عاقبة الأمر ومآله ودلالاته القريبة والبعيدة.
*******
إن العقل من حيث هو يمكن أن يجري عمليات محددة على ما لديه من المعطيات، فمن تلك العمليات: 
1-    تحليل المعاني والأمور المحكمة أي القابلة للتحليل إلى عناصرها الأولية.
2-    تركيب صور ذهنية جديدة مما لديه من العناصر الأولية.
3-    تكوين صور ذهنية للكيانات والظواهر الخارجية.
4-    إدراك الارتباطات بين ما كونه من صور ذهنية.
5-    استخلاص المعاني والأمور المحكمة من التفاصيل المعطاة.
ولكن العقل لا يستطيع أن يخلق معلومة لا وجود لها أو لم تدخل في حيز إدراكه أو في مجاله، فهو فقير إلى مصادر خارجية، وهو فقير إلى معطيات الحواس وإلى كيانات عالم الأمر.
والعقل ليس بعضو وإنما هو ملكة من ملكات القلب تتضمن المعايير والموازين والمنطق والبديهيات، وبعضها مركوز في الفطرة ومعظمها يستخلصها القلب الإنساني مما يمر بالإنسان من وقائع وما يلاحظه مما حوله، والعقل بالأصالة ملكة لطيفة مرنة قابلة للتغير وإعادة البرمجة والنمو والتزكي، وكما يكون الجهاز البصري هو الآلة المادية التي ينظر القلب بها إلي العالم المادي رغم إمكان استغنائه عن هذا الجهاز فإن المخ وما يتصل به من جهاز عصبي هو الآلة المادية لملكة العقل، فالقلب قادر علي عقل الأمور بدون هذا الجهاز وإن كان يظل مقيداً عادة به طالما ارتبطت نفس الإنسان بجسده، وعقل الأمر هو المحصلة النهائية لكل النشاطات الذهنية المتعلقة به، أي محصلة النظر بإمعان في الأمر، وهذه العملية محكومة بمدى قدرة ملكات الإنسان وبما لديه من معارف وعلوم وأنماط تفكير وكلمات ورموز، وكذلك بالظروف المحيطة به، والإنسان يعقل الأمر عند ما يتمكن من إعادة صياغته وفق ما هو مألوف لديه أو ما أصبح مألوفاً لديه من مفاهيم وتصورات وأسس ومفردات.
ويجب دائما التسليم بأن الأحكام والاستنباطات التي يصل إليها الإنسان بإعمال عقله أو ملكاته الذهنية يشوبها قدر كبير من الذاتية لأن الإنسان نفسه قد تعينت ماهيته وتشكلت مادته تحت تأثير كل ما سبق وجوده من شروط حدية وابتدائية، لذلك كان لابد من آلية تسمح بتبادل نتائج إعمال الملكات الذهنية الفردية للوصول إلى الرأي الأمثل في كل أمر، ولذلك كانت الشورى في الأمر ركنا دينيا وفرضا لازما على الفرد وعلى أولي الأمر.
فالعقل هو جماع الملكات الذهنية من فكر وفقه وفهم وإدراك وعلم وذكر، وبه يستطيع القلب أن يعقل أمراً ما بعد أن يمارس ما يلزم من إعمال الملكات الذهنية، فتلك الممارسة هي عملية التعقل، فإذا ما نجحت يقال أن الإنسان عقل الأمر بمعنى أنه تمكن من استيعابه وصياغته وفق ما هو مألوف لديه من معان ورموز وأمور فأصبحت لديه بذلك صورة ذهنية عنه يمكنه نقلها للآخرين.
فالعقل إذاً هو الملكة القلبية التي بها يستوعب الإنسان ويعي الأمور ويقلبها علي كافة أوجهها وينزلها إلى مستوى إدراكه ويتمكن من صياغة صور ذهنية لها مما هو مألوف لديه من ألفاظ وأفكار وتصورات بحيث يصبح لتلك الصور أثر فعلى فيه لا يستطيع إنكاره أو دفعه ولا يخالف مقتضيات تلك الصورة إلا مغلوبا على أمره، فهو يمتنع طوعا عن بعض الأمور ويقبل على بعضها طوعا، فالإنسان الذي عقل أضرار السم مثلا لا يقدم على تعاطيه طوعا، وإذا كان القلب بمثابة وحدة المعالجة المركزية لكيان الإنسان فالعقل هو بمثابة الوحدة المنطقية والحسابية (Arithmetic Logic Unit)  بالنسبة إلي القلب.
وقدرات العقل هي الفقه والفهم والاستيعاب والإدراك والتمييز والتقويم والتحليل والتركيب واستخراج المجردات من المحسوسات والأحكام الكلية من الوقائع الجزئية والربط بين الأسباب والنتائج واستنباط القوانين والسنن واستخلاص المقاصد والحكم والعبر وتكوين التصورات الذهنية واستيعابها وصياغتها بما لدى الإنسان من مفاهيم وتصورات وعبارات ورموز بحيث يمكن نقلها للآخرين والإفادة منها، والحِجر والحلم والنهية من أسماء العقل عندما يمارس نشاطه وسلطانه بما لديه من أمور معقولة على صاحبه نفسه فيؤدى إلى كبح جماح الإنسان وضبط القدرات الجسدية والسيطرة على الغرائز ومنعه من الإقدام على ما فيه ضرر له.
*******
إن القانون الطبيعي هو اختراع إنساني؛ فهو وسيلة عقلية إنسانية للتعبير عن علاقات وارتباطات بين مفاهيم وتصورات ذهنية عن كيانات خارجية، فأهميته إنما هي في دقة ما يعطيه من نتائج يمكن التحقق منها، وقد يمكن التعبير عن نفس الظاهرة مثلاً في المستقبل بطريقة أفضل بصياغة قانون يتضمن علاقة مختلفة بين تصورات مختلفة، ولذلك لا حاجة إلى البحث الدقيق عن أسس منطقية صارمة لا وجود لها فيما يتعلق بطريقة استنتاج القانون.
وبالعقل يمكن إدراك الأمور وتمييزها والحكم عليها بما لدي القلب من موازين، كذلك يمكن استيعابها وإعادة صياغتها بحيث تكون مألوفة للإنسان بطريقة يمكن الإفادة منها ونقلها للآخرين، فالتعقل عملية تغلُّب الموضوعية على الذاتية، فبه يمكن إخضاع الأمور والتصورات للفحص والتمحيص والنظر والاختبار واستخراج الأسس التي بنيت عليها أو إقامة البراهين لإثبات زعم ما أو دحضه، وبالعقل يمكن للإنسان أن يتقبل الأمور والمعلومات غير المألوفة بالنسبة إليه وقد يألفها دون أن يفقهها، وهو يظل غالبا مقيدا بما ألفه من معلومات وتصورات وأسس ومبادئ، وموازين العقل وتصوراته قابلة للرقى وكلما ارتقت فإن القلب يعيد صياغة ما لديه وفقا لمستواه الجديد، والملكة العلمية مترابطة ترابطا وثيقا مع الملكة العقلية فإن مدركات العلم هى مجالات العقل ونتائج إعمال الملكة العقلية تتعلق بها الملكة العلمية .
وثمة جوانب راقية من الملكة العقلية تستطيع الإدراك المباشر للكيانات الأمرية فيبدع الإنسان ويبتكر ويأتي بالجديد الذي أصبحت البشرية مؤهلة لقبوله، وبتلك الجوانب الراقية يرى الإنسان الإعجاز والكمال في الأمر المعتاد المألوف فيدرك أن هذا الأمر المألوف هو آية بينة تشير إلى سنن محكمة وصفات كمال مبهرة، والعقل ليس أداة تلق بحت ولكنه أداة خلاقة إيجابية فاعلة فهو يؤلف مما لديه من مدركات تلك الصور الذهنية التي تختزن فى الحافظة والتي يستحضرها وقتما يشاء كما يعطيها اسما لفظيا يطلقه على كل ما شابه المؤثر المسبب للصورة في العالم الخارجي، كذلك يمكنه أن يعيد تركيب ما لديه ليكوِّن صورة جديدة لم يسبق إليها وهذا هو الإبداع والاختراع والابتكار، وكل ذلك من المظاهر العليا للملكة العقلية وبالتحقق بها يزداد الإنسان قربا من ربه .
ولقد أثنى الله تعالى على من يعقلون وندد بمن يرفضون استخدام تلك الملكة أو الاحتكام إليها على كافة المستويات، كذلك ندد بمن يتصرف بما يتنافى مع العقل، وجعل استخدام الملكة العقلية هو المقصد من إنزال الكتاب وتبيين آياته وتفصيلها ومن تصريف الآيات الكونية والكتابية ومن إبداع تلك الآيات وإيجادها ومن تقلب الإنسان في أطواره المختلفة وكذلك من سن التشريعات والأوامر الدينية، كما توعد من يهمل تلك الملكة بأن يجعل عليه الرجس وهدده بنيران السعير، وتوضح الآيات الآتية كل ذلك:
{كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73)} (البقرة)، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قرءانا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2)} (يوسف)، {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرءانا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3)} (الزخرف)، {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(17)} (الحديد)، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(164)} (البقرة)، {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(4)} (الرعد)، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(46)} (الحج)، {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا(44)} (الفرقان)، {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(24)} (الروم)، {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(28)} (الروم)، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ(100)} (يونس)، {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10)} (الملك).

*******


هناك تعليقان (2):