الثلاثاء، 17 فبراير 2015

الفقـه1

الفقـه1

مصطلح الفقه يطلق على عدة أمور، وهو بالأصالة ملكة ذهنية من ملكات القلب تقتضي نشاطاً معيناً اسمه التفقه يترتب عليه فقه هذا الأمر؛ أي الإلمام الذهني به والإحاطة القلبية بصورة كيانه الأمري، فالفقه هو أساساً ملكة قلبية ذهنية يتم بها الإدراك المباشر لمدلولات الأقوال والكلام ومقاصد القائلين وكذلك لمعاني ومدلولات المعطيات الظاهرة وما يربط بينها من علاقات مما يؤدى إلى الحكم الصائب.
فالفقه هو ملكه من ملكات القلب الذهنية مجالها الكيانات الأمرية أي القوانين والسنن والكلمات والبرامج والمعاني وكذلك الآيات الكونية والكتابية، وهو يستلزم عمل ملكات أخرى كاالقدرة على التدبر وحسن الإدراك وتقليب النظر في الأمور على كافة أوجهها، وذلك التقليب هو التفكر، وجماع هذه الأنشطة هو التفقه المؤدى إلى الفقه.
والفقه ككلمة هو مصدر واسم معنى، وهو –كما هو الحال في اللسان العربي- يُطلق أيضاً على مفعول الفعل وناتج الفعل، لذلك فحاصل إعمال ملكة الفقه هو أيضا الفقه، فالفقه يطلق أيضاً على نتائج إعمال تلك الملكة المسماة بالفقه.
وإعمال ملكة الفقه يترتب عليه إدراك العلاقات والروابط بين الأمور وكذلك القوانين والنواميس والسنن وارتباط النتائج بالأسباب على كافة المستويات والمعاني الخفية وكذلك المقاصد من الأوامر.
فالفقه مجاله الكيانات الأمرية من المقاصد والحكم والقوانين والسنن والآيات الكونية من حيث ما تشير إليه ومن حيث ما تدل عليه وتقصد إليه، ففقه الكيانات الظاهرة يعنى إدراك القوانين الأمرية التي تسيرها والتي تعبر تلك الكيانات عنها وتشير إليها، ففقه تلك القوانين لازم للعلم بها، والفقه والعلم بها لازمان لعَقْلها.
وكلمة الفقه كرمز تشير إلى فتح يبدأ من الخارج ويصل إلي الذروة حتي يصل إلي صورة الشيء في عالم الغيب، وقد يصل إلى أصل الشيء في عالم الأمر، وهذا الشيء قد يكون سنة أو قانون أو حكمة أو حقيقة أو ماهية أو المعنى من أي مبنى أو أي كيان أمري آخر، فمن فَقِه القول مثلاً فقد أدرك الكيانات الأمرية التي هي أصله ومآله، أما الفهم فهو فتح يبدأ من الخارج مقترنا بإدراك الصورة الغيبية المذكورة ويتضمن الاهتداء إلي ما هو أتم وأمثل من عناصر وصور المجال، فهو يتضمن تطبيق الأمور التي تم فقهها علي ما يدخل في نطاق عملها وتحققها، فالفقه يتضمن إدراك المعني أو المغزي للأقوال والآيات أما الفهم فمجاله القضايا والمسائل ويهدف إلى ادراك الحكم السليم أو الحل الصائب لها، فالفهم مترتب على الفقه.
والفقه ملكة قلبية لدي الإنسان وهو أيضا صفة تعني تفوق الملكات الذهنية لديه وقدرته على إعمالها والإفادة منها، فالفقيه هو من يجيد استعمال ملكاته لتحقيق مقاصده.
فالفقه هو ملكة ذهنية كالفهم، ولكنه يسبق الفهم من حيث أنه من لوازمه وأنه شرط من شروطه، وهو مفصَّل بملكات أخري كالفطنة وحسن الادراك والاستيعاب والقدرة علي التدبر، ولفقه أمرٍ ما يلزم التفقه فيه، وهذا يتضمن استحضار كل ما يتعلق أو يرتبط به من معلومات وأمور وتقليب كل ذلك علي كافة أوجهه، والفقه يعني إدراك العلاقات والارتباطات والقوانين والسنن وارتباط النتائج بالأسباب علي كافة المستويات، لذلك فمجال الفقه هو الآيات الكتابية والكونية وجوهر الدين وسننه ومقاصده.
إن من مجالات الفقه الأقوال، والقول يطلق على جماع الألفاظ من حيث ما تحمله من المعاني، واللفظ أصلاً هو الفعل الإنساني الذي يترتب عليه إحداث آثار في وسط مادي تؤثر على الجهاز السمعي للإنسان فيترجمها الكيان الجوهري إلى صورتها المألوفة، وما ينتج عن فعل اللفظ هو الملفوظ، والملفوظ هو مجموعة من الألفاظ يطلق على جماعها اللفظ أيضا ويطلق نفس الاصطلاح أيضا علي مفرداتها، وهذا من باب إطلاق اسم المعنى أو المصدر على المفعول أي على مجال الفعل، وهذا من تقاليد اللسان العربي، ومن مزاياه وعيوبه في نفس الوقت!! والمقصد من فعل اللفظ هو نقل الكيانات الأمرية كالمعاني من إنسان إلى آخر، فيجب إعمال ملكة الفقه لفقه القول وعقله؛ أي للوصول إلى الكيان الأمري الذي يحمله أو يشير إليه.
*******
إن مجال الفقه هو الكيانات الأمرية (المعنوية، غير المادية، اللطيفة) من أقوال وآيات وقوانين وسنن وكلمات، وإن فقه أمرٍ ما هو ثمرة إعمال الملكات الذهنية فيه وفي كل ما يتعلق به وفي ارتباطاته الممكنة بالأمور الأخرى، والإعمال الذي يُقصد به فقه الأمر هو التفقه فيه، وهو يتضمن التفكير والتدبر والتعقل ومداومة النظر في الأمر وتقليبه من كافة جوانبه الممكنة، فالفقه يتضمن إدراك مغزي وفحوى القانون أو معني وفحوى العبارة اللغوية أو الكلمات او معني القول، فمن أدرك مقصد القائل أو معني قوله فقد فقه القول، وأمراض القلب تمنع الفقه السليم للأمور، أما الفهم فمجاله القضايا والمسائل، فهو الوصول إلى الحكم أو الراي الأمثل أو الحل الصحيح لها، ولقد حدث لبس بين معني الفقه وبين معني الفهم بسبب حرص رجال الكهنوت وسدنة المذاهب الشديد علي إهمال وتحريف المصطلحات القرآنية، ولقد برع الشيطان في استخدامهم لحمل الناس علي هجران القرآن.
فالفقه هو ملكة من ملكات القلب الإنساني كالعقل، وهو من لوازم وشروط عقل الأمر، وله ميادينه ومجالاته وهي السنن والآيات الكتابية والكونية والمقاصد والحكم الدينية، وهو من الأمور اللازمة لتمام استخلاف الإنسان في الأرض ولإعداد الإنسان للعيش في العالم الأرقي، أي إنه من لوازم تحقيق مقاصد الدين العظمي، وهو من شروط تحقيق النصر والغلبة.
فإحراز النصر له ثلاثة أركان؛ الإيمان والفقه والصبر، ولكن بالمعاني الحقيقية لهذه الأمور، والأمة التي اجتمع عندها الإيمان والفقه والصبر هي الأمة الغالبة على أمرها المنتصرة على كل أعدائها، وعلى المستوى الفردي لابد من انتصار من اجتمع فيه الإيمان والفقه والصبر.
*******
إن الفقه هو بالأصالة ملكة قلبية ذهنية مجالها الكيانات الأمرية أي الآيات الكتابية والكونية والقوانين والسنن والبرامج التي تتضمنها فِطَرُ الكائنات، وإعماله يؤدي إلى الإحاطة بما سبق ذكره وإدراكه وعقْله، أي إلى الإحاطة بأنماط العلاقات الممكنة بين الظواهر واستيعاب القوانين والسنن، ولذا فإن مجال الفقه هو ما تتضمنه العلوم الطبيعية والإنسانية بالإضافة إلى آيات الكتاب العزيز وما تتضمنه من المقاصد والأحكام والسنن، فالفقه لازم لإدراك التجليات الإلهية وتفاصيل الكمال الإلهي.
فمن يعكف على تدبر قانون كوني بهدف فقهه واستيعابه وعقله والإفادة منه هو متعبد لله تعالى إذا ما أيقن أن ذلك القانون من مقتضيات التجليات الإلهية أي من مقتضيات الأسماء الحسنى الإلهية، لذلك فمن استوعب قانوناً كونيا مع التزامه بالشرط المذكور يزداد علما بربه ويزداد كمالا ويزداد بذلك قربا من ربه، فالمعامل وقاعات البحث هي بيوت أذن الله أن ترفع  ويذكر فيها اسمه وتعرف آياته ويسبح الناس فيها بحمده، وإن العاكف فيها لإجراء بحث ينفع الناس أو لاستنباط قانون يزداد به الناس معرفة بربهم  وبمدى اتساع علمه وحكمته وتدبيره لا يقل في الفضل عن العاكف في مسجد، وأكرمهما هو أتقاهما وأعظمهما نفعا للناس، ونتائج عمل الباحث سيظل يجني ثمارها طالما بقي من ينتفع بها.
الفقه هو بالأصالة ملكة قلبية ذهنية مجالها الكيانات الأمرية أي الآيات الكتابية والكونية والقوانين والسنن والبرامج التي تتضمنها فِطَرُ الكائنات، وإعماله يؤدي إلى الإحاطة بما سبق ذكره وإدراكه وعقْله، أي إلي الإحاطة بأنماط العلاقات الممكنة بين الظواهر واستيعاب القوانين والسنن، ولذا فإن مجال الفقه هو ما تتضمنه العلوم الطبيعية والإنسانية بالإضافة إلى آيات الكتاب العزيز وما تتضمنه من المقاصد والأحكام والسنن، فالفقه لازم لإدراك التجليات الإلهية وتفاصيل الكمال الإلهي.
لقد جعل الله تعالى الفقه هو المقصد وكذلك هو شرط الانتفاع  من تصريف الآيات وتفصيلها، كما حذر من إهمال تلك الملكة فهو يؤدى إلى سوء تقدير الأمور والجهل بعواقبها والطبع على القلوب، وهذا الطبع هو الحيلولة بين الإنسان وبين الانتفاع بأثمن ما هو له بحيث ينزل بذلك إلى ما هو دون مرتبة الأنعام، كما يؤدى إلى اختلال الموازين لديه فيخاف الأضعف ويستخف بالأقوى ويرضى بالمهين القليل ويزهد في الثمين الكثير فيصبح جهله مطبقا وظلامه دامسا ويتردى فى مهاوى الفسق والنفاق ويبوء بالهزيمة والخذلان في كافة المجالات مهما عظمت إمكاناته المادية، وتوضح الآيات الآتية كل ذلك:
{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ(98)} (الأنعام)، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ(179)} ( الأعراف)، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ(65) (الأنفال)، {لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ(13)} (الحشر)، {هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ(7)} (المنافقون)، {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ(87)} (التوبة)، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ(3)} (المنافقون).
والآيات تبيِّن أن الفقه هو ملكة من ملكات القلب، وأنه بالفقه تنتصر القلَّة المؤمنة على الكثرة الكافرة التي لا تفقه، كما بينت ذلك الآية رقم 65 من سورة الأنفال: {ياَ أَيّهَا النّبِيّ حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّئَةٌ يَغْلِبُوَاْ أَلْفاً مّنَ الّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَفْقَهُونَ}.
 والفقه بمقتضى الآيات السابقة يعني الإدراك الشامل للقوانين والسنن الإلهية والكونية وما تقتضيه من علوم إنسانية ومادية وطبيعية، فلا ينشغل الفقيه بأمر تفصيلي عن أمر كلي فهو على مستوى الأمور الحياتية فنَّ إدراك الأمور الاستراتيجية، لذلك جُعل هذا الفقه مناط الغلبة والانتصار والتفوق، فالجيش المؤمن يستطيع بذلك الفقه أن يهزم عشرة أضعافه من الكفار لأنهم لا يفقهون الفقه الحقيقي، وهم لا يعلمون إلا القليل الظاهر من أمور الحياة الدنيا، ولكنهم لا يفقهونها، ذلك لأنهم لا يعلمون ولا يدركون شيئاً عن علاقتها بالقوانين والسنن الإلهية، ولذلك ينهزمون بسهولة أمام القلة المؤمنة، لأن تفوقهم العددي أو التكتيكي لا يصمد أمام من لديه الاستراتيجية الحقيقية ويجيد استخدامها.
ولقد بينت آية الأعراف رقم 179 سبب دخول كثير من الجن والإنس النار، وهو أنهم كانوا لا يفقهون، ولما كان الفقه هو من الأنشطة والأعمال الكبرى للقلب الإنساني وهو أسمى كيانات الإنسان، بل هو كيانه المركزي، فهم بالتالي لا يمكن أن ينتفعوا بما لهم من ملكات وحواس، قال تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنّمَ كَثِيراً مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }، وتبيِّن الآية بكل جلاء أن أداة الفقه هي القلب الإنساني.
أما القوم الذين وجدهم ذو القرنين من دون السدين، فقد كانوا قوماً لا حضارة لهم ولا رقي عندهم، فهم يفتقرون إلى المعرفة التقنية رغم توفر الموارد والعناصر عندهم، ولذا وصفوا بأنهم لا يكادون يفقهون قولاً، فدلت آيات سورة الكهف أن الفقه هنا يعني إدراك المعارف التقنية.
أما المنافقون فقد وصموا بأنهم لا يفقهون في آيات عديدة مثل : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ ثُمّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَفْقَهُون } ( التوبة : 127 ) ، { سَيَقُولُ الْمُخَلّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىَ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كَلاَمَ اللّهِ قُل لّن تَتّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَاُنواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاّ قَلِيلاً } (الفتح : 15 ) ، { ذَلِكَ بِأَنّهُمْ آمَنُواّ ثُمّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } (المنافقون : 3) ، {هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىَ مَنْ عِندَ رَسُـولِ اللّهِ حَتّىَ يَنفَضّـواْ وَلِلّهِ خَزَآئِنُ السّمَـوَاتِ وَالأرْضِ وَلَـَكِنّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ} (المنافقون : 7)، فما هي مظاهر ذلك عندهم ؟ لقد تخلَّوا عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بأعذار واهية، وانصرفوا عن آيات الله فصُرفوا عنها، وحيل بينهم وبين فقه آيات القرآن، فدل كل ذلك على أن من العلامات اللازمة للمنافق أنه لا يفقه، وهذا يبين أن الفقه هو الإدراك الشامل المنور بنور الإيمان لآيات الله تعالى القرآنية والكونية وكيفية الاستفادة منها.
ولقد حثت الآية رقم 122 من سورة التوبة المؤمنين من قرن (جيل) الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة لتقاتل معه ولتتفقّه في الدين على يديه بالتلقي الشفاهي عنه، وبالتزكِّي بهديه، وبالتأسّي به وبتعلّم القرآن منه، وبذلك يمكن أن ينذروا قومهم ويبشروهم، قال تعالى: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ } ( التوبة : 122) وبعد كل هذا فما هو التعريف الجامع الشامل للفقه المستمد من آيات القرآن ؟
من كل ذلك يتضح أن الفقه هو الإدراك الكلي الشامل المنور بنور الإيمان للقوانين والسنن الإلهية والكونية وما تقتضيه من علوم طبيعية ومادية وإنسانية واجتماعية وتاريخية وتطبيقية، ويتضمن الفقه أيضاً كل سعي يؤدي إلى ذلك ، فالفقه هو الإدراك الشامل والبصيرة النافذة من حيث القلب الإنساني أي من حيث لبّ الإنسان وجوهره الحقيقي، ولذا فمتعلق الفقه هو الجوهري من الأمور، وهو أيضاً الهيكل العام الذي يربط الأمور ببعضها البعض والعلوم ببعضها البعض ، فبه يمكن معرفة كيف تستند السنن الكونية إلى السنن الإلهية، ولذا فالمؤمن الفقيه يدرك الجوهري من الأمور والارتباطات الكلية العظمى بين أنساق القوانين والسنن، ولذا فإنه أقوى من غيره، بـل إنه لا يمكن أن يهـزم، قـال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} (الروم : 47)، فالمؤمن الفقيه متقدم على من هم دونه من حيث المرتبة ، وهو يسبقهم ولا أمل لهم في اللحاق به لأن سرعته أيضاً أعلى ومداه أبعد، أما من هم دونه فهم غرقى فيما لا يتناهى من جزئيات وفرعيات مفتونون بما لديهم ولا يبغون عنه حولا .
ومتعلقات الفقه ومجالاته هي الآيات والقوانين والأمور الكلية والسنن والوقائع والأحداث والعبارات والألفاظ المتداولة والأقوال، أما الفهم فهو مترتب على إعمال الفقه وتطبيق نتائجه في الحياة اليومية والوقائع الجزئية وكذلك المعارف التفصيلية والجزئية والأحكام الجزئية.
فمجالات الفقه هي الآيات والقوانين والأمور الكلية والسنن والوقائع والأحداث، أما مجالات الفهم فهي الأحكام المتعلقة بالوقائع الجزئية وكذلك المعارف التفصيلية والجزئية وكيفية إعمال القوانين وتطبيقها كيفية حل المسائل، إن الفقه هو الإدراك الدقيق للقانون بينما الفهم هو الوصول إلى الحكم السليم بإعمال القانون على الواقعة الجزئية محل النظر أو الوصول إلى الحل السليم بخصوص مسألة أو مشكلة معروضة.
إن الله سبحانه قد أعلن أنه ما خلق الإنسان إلا لعبادته وهذه العبادة تستلزم معرفة به، ولما كان كنه ذاته فوق كل إدراك وتصور وكذلك كنه أسمائه وصفاته فإنه لا يبقى للإنسان إلا معرفة مقتضيات أسمائه ومراده من خلقه وهذا يظهر في فقه مقاصد الدين العظمى ومقاصد الأوامر والأحكام الدينية الأصلية والفرعية.
أما التفقه فهو يعنى إعمال ملكة الفقه فى مجالاتها المذكورة فهو نشاط قلبي ذهني، وهو خاصية إنسانية محض؛ تفصيلها الاستدلال والاستقراء والاستنباط، أما الله سبحانه فله الإحاطة بكل الأمور من كافة حيثياتها إذ هو مبدعها ومقدرها وخالقها، ولذا فهو لا يحتاج إلى إعمال جهدٍ ما لإدراكها، وإعمال الملكات الإنسانية كالفقه في المجالات المذكورة هو ممارسة فعلية للعبادة في أسمى صورها إذا كان ذلك الإعمال على هدى من مقاصد الدين العظمى، والفقه من الأمور اللازمة لتمام استخلاف الإنسان في الأرض، فالتفقه هو وسيلة الإنسان لإدراك ما هو مستخلف فيه والتعرف عليه، والفقه لازم لإعداد الإنسان للحياة الأخرى الدائمة والمعيشة في العالم الأرقى، أي أنه لازم لتحقيق المقصد الديني الأعظم الخاص بالفرد.

*******



هناك تعليق واحد: