السبت، 28 فبراير 2015

سورة إبراهيـم من 24 إلى 27

سورة إبراهيـم من 24 إلى 27

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)

الكلمة أصلا هي كيان أمري، أي هي وحدة الكيانات الأمرية، ومن أنواعها السنن وماهيات المخلوقات.
والكلمة بحكم التعريف لا تقوم أصلا بذاتها، فهي مترتبة على وجود كائن يتكلم، والمتكلم متقدم على كلمته في المرتبة، فهو سبب وجودها المباشر، وهي تشير إلى معنى كامن يريد المتكلم إظهاره أي نقله من باطن إلى ظاهر.
وكلمات الله تعالى لا حصر لها، وحقيقة المسيح هي كلمة من كلمات الله تعالى التي لا حصر لها، ولا يجوز القول بأن الكلمة تساوق المتكلم في مراتبه الذاتية، فهو متقدم عليها تقدما لانهائي الأبعاد، والنص بالذات على أن المسيح كلمته ألقاها إلى مريم هو حجة على من زعم أنه ابن الإله أو أنه أقنوم في ثالوث إلهي، فلا يمكن حتى على المستوى البشري أن تثنِّي الإنسانَ كلمةٌ صدرت عنه، فلا يجوز القول بأن شخصا قد صار اثنين بعد أن صدرت عنه كلمة، وإنما يمكن أن تتعدد الكلمات الصادرة عنه، فيقال مثلا: تكلم خمس كلمات.
ولقد أخطأ المعتزلة حينما حاولوا القول بأن القرءان مخلوق وأخطأ من زعموا أن ذلك كان ليدحضوا حجة النصارى في قولهم بأن كلمة الله قديمة مثله ومحتجين بأن المسيح كما ذكر القرءان هو كلمة من الله، وكان يكفي القول بأن الكلمة لا يمكن أن تساوى في المرتبة من تكلم، فهي كلمة من كلامه الصادر عنه.
وقد أخطأت كل الطوائف التي لم تستطع أن تفرق بين الكلام كفعل إلهي ثابت لله تعالى متعالٍ على الأمور الزمانية والمكانية وبين مفعول هذا الفعل والذي يُطلق عليه "الكلام" أيضا مثلما يُطلق المصدر أو اسم المعنى "الخلْق" على المخلوقات، فالخلق هو فعل إلهي كامل تام، أما "الخلق" بمعنى المخلوقات فهي نواتج هذا الفعل، وهي بالطبع مقيدة وحادثة.
والكلمة اللغوية الأصلية باللغة العربية مكونة من حروف، والحروف هي رموز، والكلمة هي ارتباط بين هذه الحروف بطريقةٍ ما، والكلمة بذلك تصبح جملة أو عبارة في اللغة العلوية المحكمة، لها معانيها متعددة الأعماق والأبعاد، وأهمية اللسان العربي أنه اللسان الذي حافظ على طبيعته الأصلية وارتباطه باللغة العلوية المحكمة بحيث يعبر عن المعاني الغيبية بأعلى درجة ممكنة من الدقة على المستوى الإنساني.
*******
إن الكلمة بالأصالة وبالاصطلاح القرءاني هي وحدة الكيانات الأمرية، فهي ليست اللفظ أو المفردة اللغوية وإن شاع إطلاقها على المفردة اللغوية، ومن الكلمات الماهيات وحقائق المخلوقات والقوانين والسنن الكونية والشرعية.
ومن الكلمات ما تشير إليه العبارات اللغوية القرءانية المصاغة باللسان العربي، وطبقاً للسنن فالإنسان بتلاوته أو بقراءته تلك العبارات يستحضر بقدر وسعه آثار ومقتضيات الكيان الأمري الذي تشير إليه تلك الآيات، وينشأ عن تلاوته كيانات أمرية جديدة يتناسب سموها وتأثيرها وانتفاعه بها مع مدى إخلاصه ومع سمو قلبه.
إن هذا القرءان هو الذي تمت به كلمات الله تعالى صدقاً وعدلا فهو الأولى بتلك الصفة المذكورة في الآية من أي كتاب آخر، فهو أطيب الكلمات، لذلك لابد له من عطاء دائم متجدد في كل عصر يتلقاه أفضلهم استعدادا ويبينه للناس، وهذا الاستعداد الأفضل إنما يكتسبه من أجلَّ هذا الكتاب ووقَّره ولم يهجره وعرف له قدره فلم يزعم أنه ينسخ بعضه بعضا ولم يقدم عليه مما هو من دونه شيئاً، إن الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها فعطاؤها دائم ومبارك، فهل ثمة ما هو أطيب من كلام الله تعالى؟
وكل فعل يصدر عن كائن ذي إرادة واختيار يتجسد في العالم الأمري ككلمة تتسق طبيعتها ونوعيتها ومداها مع طبيعة الفعل، فالكلمة الطيبة تصدر عن الإنسان الصالح الطيب كنتيجة لاستجابته لأوامر ربه الدينية وعمله وفق مقتضياتها، وما يصدر عنه هو كيان أمري حي فعال مؤثر، فقوة الكلمة ومدي نفاذها وتأثيرها يتناسب مع عمق الكيان الذي صدرت عنه، أما إذا كان الفعل مخالفاً لأمر ديني فستكون الكلمة الممثلة له والمجسدة له كلمة خبيثة يتدهور كيانه بسبب آثارها.
وتوضح الآية أن لفعل إلهي هو ضرب الأمثال مقصداً هو أن يتذكر الناس، فبالتذكر تتزكي الملكة القلبية الإنسانية، وهو أمر لازم ليتحقق الإنسان بكماله المنشود وليتحقق المقصد الديني الأعظم الخاص بالإنسان.
والتذكر يتضمن إشارة إلى العهد المأخوذ على النفس الإنسانية لدى ظهورها وإقرارها القديم بالربوبية لخالقها والمودع في أصل فطرتها.
والشجرة الطيبة هي منظومة القيم الإسلامية التي هي من مقتضيات الأسماء الإلهية، فالكيانات التي تصنع على عين تلك المنظومة هي الثمار الطيبة لتلك الشجرة، وكل ما يصدر عنهم هو ماثل في السماء، ويجب العلم بأن كلمة السماء هي أصلا اسم معنى كالجلال والجمال والبهاء، فكون فرع الكلمة الطيبة في السماء يعبر عن محلها اللائق بها كما يعبر عن سماتها، والسماء هو المحل الأمري للكائنات الفائقة والكلمات الطيبة.
والشجرة الطيبة هي دين الحق نفسه وما يصنعه على مدى القرون من عباد الله الصالحين وأوليائه المقربين.

أما الكلمة الخبيثة فهي جماع كل ما كان مضادا للكلمة الطيبة، فهي منظومة الصفات الشيطانية، فهي الشجرة الخبيثة التي تتضمن الكفر المضاد للإيمان والنفاق المضاد للإخلاص والشرك المضاد للتوحيد والكذب المضاد للصدق والباطل المضاد للحق والظلم المضاد للعدل ... الخ، وتتضمن هذه الشجرة مظاهرها من البشر من شياطين الإنس والذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أئمة الضلال والجهل والإفساد في الأرض.
وليس ثمة أسهل من اجتثاث الشجرة الخبيثة، فلا قرار لها، والباطل لا يصمد للحق بمثل ما أن العدم لا يثبت للوجود، كما أن الشر عارض في الوجود، ولا يستند إلا إلى ما لدى الناس من نقص ذاتي يعود إلى أصلهم العدمي.

ولقد طمأن الله تعالى المؤمنين في آيات عديدة، وهو هاهنا يطمئنهم من جديد ويؤكد لهم أن سيثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، فلا خوف عليهم من الفتن ولا من أهوال الدنيا والآخرة، فمن آمن بالله وجعل ثقته به لن تقوى عليه قوى الشر ولا أبالسة الجحيم.
أما الظالمون فهم الذين استحبوا الشرك على الإخلاص لله وفضَّلوه على الشهادة له بما هو حق له، فظلموا أنفسهم قبل أن يظلموا ربهم، فضلُّوا بمقتضى السنن الإلهية، ولا جبر ولا إكراه هاهنا، فهو سبحانه لم يقل إنه يضل المهتدين ولا قال إنه يضل الناس، فظلمهم هو الذي جذبهم إلى الضلال، وقد تحقق لهم ما أرادوه لأنفسهم، ولن يكرههم الله تعالى على شيء، فمن لوازم نوع الإنسان الإرادة الحرة والاختيار، ومن السنن الإلهية الكونية أنه لا إكراه في أمور الإيمان، والله سبحانه لا يناقض نفسه ولا يفعل إلا ما تقتضيه سننه التي اقتضتها أسماؤه الحسنى.


*******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق