الثلاثاء، 26 أغسطس 2025

من كتابنا رقم 88، إيمانيات دين الحق 2، 2017

مسألة التكليف بما لا يطاق

ترتب على قول الأشاعرة بنظرية الكسب أن قالوا بأنه يجوز أن يكلف الله تعالى عباده ما لا يطيقونه؛ ذلك لأن مشيئته مطلقة ولا يقبح منه شيء البتة.

الحق هو أن الله تعالى لاَ يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا، ولقد قال ذلك في نصّ صريح لا يحتمل أي تأويل، قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا...} [(286) سورة البقرة]، ولكن قلما يقيم المتكلمون في العقائد وزنًا حقيقيا لآيات القرءان، ومن هنا طعنهم السلفية وشنعوا عليهم وقضوا عليهم عمليا!

التكليف إنما هو بالوسع، أما التحميل فهو شيء آخر! ولا يجوز الخلط بينهما!

والله تعالى رؤوف رحيم، وله منظومة أسماء الرحمة، وتشمل أسماء عديدة، والتكليف بما ليس في الوسع لا يتسق مع مقتضيات نهذه المنظومة، والمشيئة هي جماع مقتضيات أسمائه الحسنى بما فيها أسماء منظومة الرحمة، وكلام الأشاعرة يتضمن تجاهلا تاما لهذه الأسماء، وكفرًا بها عن جهلٍ بالطبع، وظنا بأن المشيئة أمر عشوائي بحت، كما أنه يتضمن تجاهلا لما ذكره القرءان، فما هي المصلحة في الكفر بأسماء الله وبما ذكره في كتابه؟! إن كل خطأٍ في الأمور العقائدية يستند إلى تصور خاطئ ومفهوم باطل لدى الناس عن رب العالمين، وهو بالطبع يكون مقيدًا بما لدى الناس من مثلٍ أعلى يوافق عصرهم، فالتصور الذي كان لدى الأشاعرة هو الحاكم البشري الذي كان يفعل كل ما يحلو له دون قيد من شرعٍ أو خلق، الذي يكون كلامه هو القانون وهو الحكم، الذي يدخل إليه اثنان فيعفو عن أحدهم ويطيح برقبة الآخر دون أن يسائله أحد.

والتكليف إنما يكون بالأوامر القرءانية، وهو يكون بما هو في الوسع، قال تعالى: {وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون}[المؤمنون:62]، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ....} [البقرة:286]، {.... لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ....} [الأنعام:152]، {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [الأعراف:42]

ولا حرج في الدين، كما توجد أحكام الاضطرار، أما التحميل فهو يكون بما يواجهه الإنسان من تدبيرات وتصاريف وابتلاءات، وهذه قد تكون فوق طاقة الإنسان أو قدرته على الاحتمال، ولذلك للإنسان أن يدعو ربه ألا يحمله ما لا طاقة له به، قال تعالى: {..... رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين} [البقرة:286]

والله تعالى غني كريم، وهو الغني المطلق عن العالمين، وهو لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، ويجب تنزيهه عن الأفعال المترتبة على كمالات الناس لما يشوبها من نقص وعجز ومحدودية، وبالأولى يجب تنزيهه عن الأفعال التي هي مقتضى نقصهم، والناس تستنكر أن تجد شخصا يحمل دابة عنده ما هو فوق طاقتها، فلا يجوز أن ينسبوا إلى ربهم أنه يكلف عباده فما هو فوق طاقتهم، ولماذا إذًا شرع لهم أحكام الاضطرار، بل أباح لهم أن ينطقوا بألفاظ الكفر به عندما يكرههم على ذلك مضطهدوهم الكافرون.

ولقد قال تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء:147]، {.... وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم}[البقرة:143]

فهو هاهنا يبرئ نفسه مما سيلهج به الظالمون في حقه الذين جوزوا عليه الظلم -الذي نفاه عن نفسه- وكان ذلك منهم بحجة أنه يتصرف في ملكه، فهو ينفي عن نفسه أن يعذب من شكروا وآمنوا، كما ذكر أن التكليف هو لحكمة وليحقق مقصده الوجودي، وأنه لم يقصد بذلك إضاعة إيمان وثواب أعمال المؤمنين الحقيقيين، ولقد كان تنزيه الله تعالى عن أفعالٍ كهذه له نفس أهمية تنزيهه عن نسبة الجوارح والتغير الزماني إليه.

إن الله تعالى لاَ يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ولاَ يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا، هذا ما ذكره عن نفسه وهو الأصدق حديثا، وهو لا يعذب إنسانا على فعل غيره، ولا يكلفه بما فوق قدرته ثم يعذبه إذا لم يستطع القيام بما هو مكلف به.

إنه يجب العلم بأن أسماء الله الحسنى هي أصل ومصدر القيم، فكما يجب تنزيه الله تعالى عن الصورة المادية الحسية كذلك يجب تنزيهه عما لا يليق به من الصور المعنوية.

أما تجويز الأشاعرة لأن يعذب الله تعالى من قام بأوامره وأن ينعم من عصاه وتمرد عليه فهو مثال يبين كيف يمكن للقواعد الكلامية الباطلة أن تكون تصورا خاطئًا لدى الناس عن رب العالمين، وبالطبع فإن هؤلاء لا يقدرون عواقب أقوالهم على الناس وكيف أنها ستصد الناس لا محالة عن سبيل ربهم، فإن أهم أمرٍ يميز دينًا عن الآخر هو ما لديهم من تصور عن إله الكون.

والأشاعرة بتصورهم هذا يلصقون بربهم ما يبرئ نفسه في القرءان منه بشتى السبل الممكنة! ورغم أنه يبرئ نفسه من الظلم ويريد ألا يجعل لأحد عليه حجة فالأشاعرة ألصقوا الظلم به وجعلوا عليه أمام الناس الحجة بتقديمهم تصور عنه لا يليق به ويفرق بين أسمائه، فظلموا ربهم وما قدروه حق قدره.

ومن العجيب أن يصدر ذلك عمَّن نفوا أكثر سمات الكمال الإلهية أو اختزلوها إلى أدنى حدٍّ ممكن بحجة التنزيه، ألم يكن من الأولى بهم أن ينزهوه عما لا يمكن أن يتورط فيه إنسان سويّ؟! ماذا يقول الناس عن قاضٍ حكم على من ثبتت براءته ثبوتًا تاما بالسجن مع الأشغال الشاقة وحكم بأن يسكن القاتل المجرم أحد القصور الفخمة؟! سيقولون إن القاضي لا يملكهم! فماذا لو حكم من يملك مجموعة من العبيد على عبدٍ بريء بالسجن مع الأشغال الشاقة وحكم بأن يسكن العبد المجرم أحد القصور الفخمة؟!

*******

مسألة الاستطاعة

الاستطاعة هي ما لدى الإنسان من إمكانات لازمة لكي يصدر فعلٌ ما عنه، فهناك من يستطيع أن يحمل مائة كيلوجرام، وهناك من لا يستطيع ذلك مثلا، وهناك من يستطيع أن يكتب، وهناك من لا يستطيع، وهناك من يستطيع الصيام في ظروف معينة، وهناك من لا يستطيع، والإنسان عادة يعرف ما يستطيعه وما لا يستطيعه، وإلا فإنه سيعلم ذلك بالتجربة والاختبار.

والإنسان الذي قرر أن يسرق مثلا لن يكتسب قدرة مقارنة لاقترافه هذه الجريمة حال اقترافها، ولكنه يعلم مسبقًا أن لديه القدرة على ذلك، وهو يحاول أن يتوافق مع السنن الكونية ليقوم بفعله، وهو يعلم أيضًا أنه قد يُحال بينه وبين فعله بأسباب لا علاقة لها بقدرته.

ووجود الاستطاعة من الإنسان هو من شروط تكليفه، فلا يجوز نفيها عنه، ولا القول بأنها تحدث مقارنة للفعل لكيلا يكون لها تأثير فيه.

قال الأشاعرة: أن القدرة التي بها الفعل ظاهرا غير مؤثرة في وجود الفعل، بل متعلقة به بدون تأثير لها فيه، قالوا: إنها مقارنة للفعل، لأن المقارنة لابد منها ليصح تعلقها بالفعل، ويصح كون الفعل مكسوبا للعبد، وأما تقدمها على الفعل فإنما يحتاج إلى القول به إذا قيل: إنها مؤثرة في الفعل، وأهل السنة لم يقولوا بتأثيرها، فلم يحتاجوا إلى القول بقدرة موجودة قبل الفعل.

هذا مجرد لغو من القول، فهم من أجل أن يقرروا صحة مذهبهم زعموا أن القدرة التي بها الفعل مقارنة للفعل حتى يكون أثرها فيه معدوما!!!! وهم يقولون أنه لا حاجة إلى القول بوجود قدرة للإنسان لأنه لا أثر لها في الفعل!!

وبالطبع لدى كل إنسان قدرة مستقلة عن الفعل، وهي من شروط تحقق الفعل، ولو لم يكن للإنسان قدرة على الفعل لما كُلف به، فلولا قدرته على الطاعة لما أُمر بها، ولولا قدرته على المعصية لما نُهي عنها.

واستدلالات أحمد بن حنبل غير صحيحة، وتأويلهم لكلامه غير صحيح، والآيات تثبت وجود الاستطاعة، فهي تتحدث عن استثناءات في مواقف محددة، لا يجوز تعميمها.

*******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق