الحرية

الحرية

الحرية الحقيقية هي في الإيمان الحقيقي بأنه لا إله إلا الله كما تحدث عن نفسه في القرءان وفي أن يعيش الإنسان وفق هذا الإيمان، هذه الحرية هي من أركان المنظومة المعنوية الرحمانية والتي هي منظومة القيم الإسلامية.

فالحرية هي من مقتضيات الإيمان بأنه لا إله إلا الله، لذلك فعلى الإنسان الحر ألا يعبد إلا الله وألا يشرك به شيئاً وألا يتخذ من دونه رباً، لذلك فهي تعني ألا ينسب الإنسان إلي غير الله بلسان المقال أو بلسان الحال أية سمة من سمات الألوهية أو الربوبية وأن يعلم أن كل ما سوى الله بالنسبة إليه هو آلة من آلاته وأداة من أدواته يستعملها كيف يشاء أي كما تقتضي السنن الإلهية وما يترتب عليها من السنن الكونية، ولا فضل لإنسان على آخر من هذه الحيثية إلا بقدر توافق إرادته مع الإرادة الإلهية، ومن كان حريصا دائما على طاعة الله وكان لله في قلبه المكانة الأعلى سيجد أن ربه يستعمله دائما في فعل الخير والدعوة إليه ونفع الناس.

والإنسان لا يجد حريته الحقة إلا بالتوافق مع السنن الإلهية والكونية والعمل وفق مقتضياتها ومقتضيات السنن الشرعية، فالسنن بكافة أنواعها هي من مقتضيات الإرادة الإلهية، لذلك فلابد من معرفة تلك السنن، ولذلك أيضاً فإن حرية الإنسان تزداد بقدر علمه ومعرفته، ولابد أيضاً من أن يزكي ملكاته وقدراته وثرواته الحقيقية، لذلك فالإنسان الرباني الصالح المفلح هو أكثر الناس اتصافاً بالحرية وتمتعاً بثمارها، ولذلك أيضاً فإن تحقيق المقصد الأعظم الثاني (إعداد الإنسان الرباني الصالح المفلح) يعني توفير أقصى مدي ممكن من الحرية للإنسان.

والحرية تعني أن يعمل الإنسان وفق مقتضيات حقائقه ولطائفه العليا، لذلك فإن الخضوع المطلق لمقتضيات الجسد والمسارعة إلى تلبيتها لا تعني حرية الإنسان وإنما تعني عبوديته لأدنى مكوناته والتصاقه بالأرض وإخلاده إليها ومنعه من الانطلاق إلى الأعالي.

ومن الحريات الأساسية التي يجب توفيرها للإنسان حرية اعتناق ما يشاء من الأديان والمذاهب، وهذا هو مقتضى السنة الكونية والشرعية: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }يونس99.

والوحدة الدولية الآن لم تعد القبيلة ولا الأمة ولا جماعة المنتمين إلى مذهب واحد وإنما الوطن، ولا يوجد وطن الآن بدون تعددية في المذاهب والأديان والأعراق وربما الألسنة واللغات، ويجب في مثل هذا الوطن احترام حقوق الإنسان الأساسية ومنها حرية العقيدة وإصدار ما يلزم من القوانين واتخاذ ما يلزم من إجراءات لتحقيق ذلك، ودين الحق لا يخشى شيئا طالما لم يلجأ الآخرون إلى الكذب والتدليس والافتراءات. 

والحرية ليست هي الفوضى، وليست هي التحلل من الدين أو من منظومة القيم الإنسانية، وإنما هي في الانطلاق إلى الأعلى مع التخلص من كل ما يقيد الإنسان ويشده إلى المراتب والأشياء الأدنى، والانطلاق والارتقاء لا يكون إلا بالتعلق بالله تعالى وإقامة علاقة دائمة ووثيقة معه، والعلاقة الممكنة الوحيدة معه سبحانه هي في الانجذاب إليه والاعتصام به، وإسلام النفس طواعية له، وجماع كل ذلك هو في عبادة الله تعالى والتبرؤ من غيره من الأشياء إلا من حيث أنها من آثار أسمائه ومظاهرها ومن سبل التعرف عليه، فحرية الإنسان إنما هي بإزاء غيره من الكائنات والكيانات المخلوقة وهى لا تكتمل إلا باستغنائه بربه عن كل ما هو من دونه، فالإنسان الحر لا ينظر إلى هذه الكائنات والكيانات إلا كآلات بيد الله تعالى يوصل إليه من خلالهم وبهم ما يشاء.

ولقد ترك الله تعالى للإنسان حرية الخطأ والصواب بل وحرية الكفر والإيمان ولكنه بيَّن له عاقبة اختياره من باب الرحمة به وتوعد العاصين وفتح باب التوبة لمن أرادها، ولكن بعض عتاة المجرمين وشياطين الإنس أعطوا لأنفسهم من الحقوق ما لم يعطه الله تعالى لنفسه، وهو محاولة إكراه الناس على الإيمان كما يتصورونه هم، كما نصبوا من أنفسهم محاكم تفتيش ومنفذي أحكام عليهم!! هذا مع أن الله تعالى قد أعلن بكل وضوح أن الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من أمور الدين مرجأ إلى يوم القيامة.

وقد تستلزم تركيبة إنسانٍ ما أن يقع في معصية للحد من كبره وغروره وغطرسته واعتداده المبالغ فيه بنفسه أو بطاعته فيكون المترتب على تلك المعصية من مراجعة النفس وتقويمها علاجا لما كان عليه وأفضل مما هو مترتب على طاعة معلولة تخفى داءاً كامناً، فيجب أن يتحرر الإنسان من الأهواء والأوهام وكل مقتضيات الأوهام، وعليه ألا يستعبد نفسه للوسيلة فينشغل بها عن الغاية.

=======

إن الإنسان كائن مقيد وبالتالي فإن حريته لا يمكن أن تكون مطلقة، فهي منوطة بقدراته وإمكاناته وملكاته ومعارفه، ولابد أن يكون الإنسان في كل مرحلة من مراحله علي وعي وإدراك بما يجب الالتزام الاختياري به ليتحقق بكماله المنشود، والحرية الحقيقية هي الإحساس الصادق المترتب علي الارتباط الاختياري بالإله الأعظم والاعتصام به، فبهذا الإحساس يتحرر الإنسان من العبودية لمقتضيات جسده البهيمية وبارتباطه الغرائزي بكل ما هو من دونه، كما يتحرر من الخوف من كل المخلوقات، وكذلك يتحرر من كل القيود التي تكبله بحكم ولادته في بيئة معينة واتباعه لإملاءاتها، كما يتحرر من كل ما هو مفروض عليه لأسباب غير موضوعية مثل اتباع لأسلاف أو مجاراة التيار العام.

والإنسان الذي يتصور أن الحرية مثلا هي ما يتيح له إقامة علاقات حسية مع أكبر عدد من النساء إنما هو عبد لغرائزه البهيمية، والإنسان الذي يظن أن الحرية تتيح له الاعتداء على حقوق الآخرين واستباحتها لنفسه إنما هو عبد لغريزته السبعية، والإنسان الذي يتصور أن حريته تكون في التطاول على كل من هو خير منه هو عبد لسفالته وسوء أخلاقه وخبث طويته، ومشكلة الإنسان هي أنه معرض للنزول إلى مرتبة أدني من مراتب البهائم بل إلى أسفل سافلين، لذلك ففي حين أن السباع لا تأكل إلا ما يكفيها للبقاء في نظام طبيعي متسق فإن عدوان الإنسان علي غيره قد يكون بلا حدود، فقد يتسبب أحد الطغاة في القضاء ماديا أو معنويا علي ملايين البشر.

إن الله سبحانه خلق الإنسان حرا، وهذا المعني معبر عنه في الكتاب بمقتضياته ولوازمه، ومن ذلك أنه جعل الطاعة المطلقة الملزمة للإنسان هي بالأصالة لله وحده، أما طاعة كل من هم دونه فإنما هي بأمره؛ فلابد من اتساق الأمر الصادر من ولي الأمر مع الأوامر الإلهية، ولقد نص الكتاب العزيز على أن الرسول الأعظم نفسه ليس بمسيطر ولا بوكيل ولا بحفيظ ولا بجبار على الناس وأنه ليس إلا مبشرا ونذيرا وداعياً إلا الله بإذنه وليس له أن يكره الناس على الإيمان، إن ما رفضه الله تعالي لأحب خلقه لن يسمح به لمن هم من دونه.

إن ممارسة مقتضيات الحرية ينبغي ألا تتضمن مساسا بحقوق الآخرين، لذلك فإن تلك الممارسة يجب أن يكون لها مجالاتها المحددة بكل دقة والتي يعلمها الجميع، ولا ينبغي النظر إلى الموضوع بطريقة رومانتيكية أو ديماجوجية، ذلك لأن جمال الفعل الإنساني لا يظهر إلا في ممارسة العمل رغم وجود القواعد والأسس المقيدة، فلاعب الشطرنج العبقري مثلا يختار بحرية أفضل نقلة ممكنة بالنظر إلى الحالة الراهنة أمامه ومنها حالة خصمه وإمكاناته وردود أفعاله المحتملة مع الالتزام التام بكل قواعد اللعبة وقوانينها، ولو لم يكن ثمة قواعد لما كان ثمة لعبة أصلا، فالإنسان الذي يريد الاستمتاع الاختياري الحر بكل ما يقدمه له مجتمع ما يجب عليه أن يلتزم التزاماً اختياريا واعياً بالأسس والمبادئ والقوانين ومنظومات القيم والسنن الخاصة بهذا المجتمع، ولذلك فلابد لدعاة الليبرالية الآن في مصر من التمسك بمنظومة القيم الإسلامية.

فالحرية هي القيمة المعبرة عن أنه لا إكراه في الدين وعن أن الإنسان لا ينتفع على المستوي الجوهري إلا بعمل أقدم عليه بمحض إرادته وعن أن له إرادة حرة واختيارا كما يليق بمرتبته.

إن الحرية هي في الانطلاق إلى الأعلى مع التخلص من كل ما يقيد الإنسان ويشده إلى المراتب والأشياء الأدنى، والانطلاق والارتقاء لا يكون إلا بالتعلق بالله تعالى وإقامة علاقة دائمة ووثيقة معه، والعلاقة الممكنة الوحيدة معه سبحانه هي في الانجذاب إليه والدوران في فلكه وإسلام النفس طواعية له، وجماع كل ذلك هو في عبادة الله تعالى والتبرؤ من غيره إلا من حيث أنه من آثار أسمائه ومظاهرها ومن سبل التعرف عليه، فحرية الإنسان إنما هي بإزاء غيره من الكائنات والكيانات المخلوقة وهى لا تكتمل إلا باستغنائه بربه عن كل ما هو من دونه، فالإنسان الحر لا ينظر إلى هذه الكائنات والكيانات إلا كآلات بيد الله تعالى يوصل إليه من خلالهم وبهم ما يشاء.

-------

إن الإنسان لا يستطيع الخروج من العالم الذي يحيا فيه وبالتالي فهو خاضع ظاهراً وباطنا لقوانين ربه، فكما وجد بها لأنها هي الحق الذي خلق به فإنه أيضا يحيا بها، وبالتالي فإنه بكل جسده ولطائفه وحقائقه عابد لربه ومسبح بحمده، ولقد وُهِب إرادة حرة واختيارا، ولكن حتى وهو يمارس الاختيار فإنه عابد لربه لأن هذا الاختيار هو ما اقتضته قوانين الله وسننه، وللإنسان من الحرية بقدر ما أعطاه الله من القدرات والملكات وخاصة الاختيار الذي يمارسه في حياته اليومية، ولكنه بالنسبة إلي ربه عبد شاء أم أبى، فالحرية هي أمر نسبي يمارسه الإنسان بالنسبة إلى من هم مثله ومن هم دونه، وبقدر اتساع وسمو ملكات الإنسان وقدراته وعلومه بقدر ما تزداد حريته، ولما كانت القوانين أنساقاً متتالية فإن حرية الإنسان تتسع بمقدار تحرره من الخضوع لمقتضيات نسق أدنى وبمقدار ازدياد إحساسه بالتزامه الواعي وخضوعه لمقتضيات نسق أعلى بمعنى أن حرية الإنسان تتسع بقدر ترفعه على الضرورات المادية التي تحف به، ومن أعظم المجالات التي تتجلى فيها الحرية الأمور الوجدانية فإنه لا سلطان لأحد على الإرادة والحب والهوى فهي أمور ذاتية لا يملك سلطان فرضها على إنسان.

**********

إن الحرية هي من لوازم الحقيقة الإنسانية، وحال تحقق الكيان الإنساني  فإنها تتأصل في قلبه بحيث يمكن له بها أن يؤمن بما يريد وأن يفعل ما يريد دون إملاء أو تدخل أو إكراه من كائنات أو عوامل أخري، وبالطبع فإن ما يريده الإنسان هو متسق مع طبيعته الذاتية والحالة التي هو عليها والظروف التي يجد نفسه فيها، ولا يجوز هاهنا القول بأن تلك الطبيعة مفروضة عليه لكونها قد تشكلت من قبل بفعل وتأثير كل ما سبقه من أحوال ووقائع..، ذلك لأنه بتلك الطبيعة كان هو هو ولو تغير شيء من تلك الأحوال ولو قليلاً لما كان هو بل لكان غيره ولانتقلت حقيقته هو إلي حيز الاستحالة، فمثل هذا يود العدم لنفسه والوجود لغيره، فالطبيعة الذاتية للإنسان لا تتعين ولا تتألف في الفراغ المطلق، والحرية الإنسانية تتمثل فيما لديه من ملكات الإرادة والاختيار والعزم والقصد والتوجه...، وهي لا يمكن أن تكون مطلقة لأن الإنسان نفسه كائن نسبي مقيد محدود، ولا يملك الإنسان بما لديه من حرية أن يناطح القوانين والسنن الإلهية الكونية، وهو إن حاول سيضر نفسه قبل أن يضر غيره، ولكي يتحقق الإنسان بكماله المنشود يجب أن يتسامى بتلك الحرية، وذلك يقتضي أن يحاول دائماً التحرر مما يشده إلى الزيف والباطل والأمور الدنيا وأن يحاول التحقق بصفات الكمال التي تجذبه إلي بارئه وتوثق صلته به، فالحرية الحقيقية إنما هي لمن تمسك بدين الحق الذي من أركانه الاعتصام بالله وإقامة صلة وثيقة به والتوافق مع أوامره وسننه، أما المشركون الذين اتخذوا أرباباً من دون الله فقد فقدوا بالضرورة حريتهم، وكذلك من تصور أن الحرية إنما هي فيما يتعلق بممارسة الملذات الجسدية الحسية، فهو بذلك يقوي من أواصر عبوديته للشهوات البهيمية التي تباعد بينه وبين عالم الإنسان، وتبعده عن التحقق بكماله الحقيقي.

وكلمة "حرية" كرمز تعني الاتصاف بكل الصفات المؤثرة الحسنة طبقة بعد أخرى وتأكيد ذلك، وبذلك يتم اكتساب الحياة الحقيقية.

ولا يمكن ممارسة الحرية إلا في عالم محكوم بقوانين وسنن يتحرك الإنسان في إطارها وفي وجود مجتمع يحمي الناس من شره ويحميه هو من شر غيره.

والحرية إنما تكون بقدر تحرر الإنسان من مقتضيات كيانات أدنى ومنها مكوناته هو الجسدية والنفسية وبارتباطه مع ذلك وعمله بمقتضيات كيانات أرقى وأعلى، فالحرية الحقيقية للإنسان إنما تتحقق بإقامة صلة وثيقة بربه وبفك ارتباطه بما هو من دونه إلا بقدر ما يأمره به ربه.

-------

إن حرية الإنسان الحقيقية هي ألا يكون لمخلوق علي قلبه سبيل ولا حكم وأن يتحقق بحقيقة ومقتضيات أنه لا إله إلا الله وبحقيقة أن لله الأسماء الحسنى، وهذا لا يكون إلا إذا كان الإنسان يسعى جاهدا للتحقق بمرتبة أول المسلمين وهي أعلي مراتب الإسلام وفيها يكون الحكم علي قلب الإنسان لله وحده وتكون صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين.

*******