السبت، 17 يناير 2015

الإسلام هو دين الحق وليس بدولة 1

الإسلام هو دين الحق وليس بدولة 1

إن الإسلام هو دين الحق، وهو الدين العالمي الذي ارتضاه الله للناس كافة، ولكنه ليس بدولة، وليس من سماته ولا من مقاصده أن يكون سلاحاً في يد شخص أو مجموعة لتتسلط به علي الآخرين، ولقد تكفَّل الله عز وجلّ بحفظ رسالته ولم يستحفظ عليها أحداً ولم يترك أدنى فرصة لفئة لتتكسب به ولا لتتسلط علي الناس باسمه ولا لتتطفل علي العلاقة بين الإنسان وبين ربه، ولقد أعلن أنه هو الوكيل والمهيمن والحفيظ والرقيب والجبار، ونفى عن رسوله كل ذلك، فليس لأحد أن يزعم لنفسه باسم الدين ما اختص الله تعالى به نفسه وما نفاه عن رسوله. وهو لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولا اتخذ أحداً من المضلين عضدا، ولكل لذلك يستطيع الآن أي إنسان في أي مكان أن يعتنق الإسلام كما يعتنق أي دين من الأديان دون أن يكون ملزماً بالتصادم مع الدولة التي ينتمي إليها، وهذا يعني أنه ليس من حق أي إنسان أن يتمرد أو أن يخرج على قومه أو بني وطنه شاهراً سيفه بحجة أنه يعرف الإسلام الصحيح أو بأنه يجد نفسه ملزماً بتطبيقه، مثل هذا هو مجرد مفسد في الأرض، وما له من ناصرين، ولن يحصد إلا الخزي والهلاك في الدنيا، ولا يمكن أن يتقرب أحد إلى الله تعالى بترويع الناس ولا بالإفساد في الأرض ولا بالتآمر في الظلام.
وكل مسلم هو ملزم بالأصالة أن ينجو بنفسه وأن يبدأ بجهادها أولا حتى يفوز بحسن الخاتمة فلا يموت كافرا، أما من يخرج بسيفه على جماعة المسلمين بحجة أنهم مشركون من وجهة نظره أو طبقا لمذهبه أو لأنه يريد إقامة خلافة فقد خسر الدنيا والآخرة، وبمجرد أن يتورط في سفك دم مسلم فقد ضمن لنفسه الخلود في النار، ومن يرى أن المسلمين الآخرين مشركون ليس له إلا أن يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن إن كان على بصيرة من أمره وعلى يقين من أنه أهل لذلك حتى لا يتحمل وزر من يضلهم يغير علم.
------------
يرفع البعض شعار أن الإسلام دين ودولة، وهذا الشعار باطل، ذلك لأنه يتناقض مع منظومة خصائص وسمات الإسلام؛ فهو يتناقض بصفة خاصة مع عالمية الإسلام وطابعه السلمي، والحق هو أن الإسلام دين، بل هو الدين الكامل، فالإسلام بمعناه الرسمي الاصطلاحي هو بالنسبة إلى الأديان الأخرى خاتمها وأكملها، وهو في الحقيقة أيضاً الصورة النهائية الكاملة التي تطور ووصل إليها الدين الواحد الذي أُلزمت به الإنسانية منذ ظهورها، فالدين عند الله واحد؛ هو الإسلام، هذا الدين بلغ كماله بالقرءان، وكان إعلان اكتمال الدين الذي رضيه الله تعالى للعالمين وتمام النعمة الإلهية هو –لو فقهوا- أسعد أيام البشرية؛ ذلك هو اليوم الذي نزل فيه: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً.....} المائدة3
فالدين لم يكتمل إلا قبيل انتهاء العصر النبوي، وما إن تمّ ذلك إلا وأقبلت فتن كقطع الليل المظلم، وحيل بين الرسول وبين كتابة وصيته التي لو كتبها لما ضلوا أبدا، فلم يُطبق دين الحق بكامله على الأرض أبدا.
والوصية كانت خاصة أساساً بأهل القرن الأول، وكانت تتضمن توثيقا لما أوصاهم به من قبل، وكانت ستمنع كل ما اختلفوا فيه من بعد، وكانت محاولة منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وسَلَّمَ لإنقاذهم مما كان يعلمه، وهو كان يعلم أنه لابد من نفاذ القضاء، ولكن أخذته الرحمة بهم، فلما حالوا بينه وبين كتابة الوصية كان من الطبيعي أن يصرف النظر عنها، ذلك لما رآه من إصرارٍ منهم قد يترتب عليه مضاعفة العذاب عليهم، وقد يتورطوا في تجاهل الوصية لو كُتِبت فيهلكوا، لا يمكن إيقاف عمل السنن كما لا يمكن إرغام الأمور على ما ليس من ديدنها.
والحق هو أن من مقاصد الإسلام العظمى إعداد وبناء الأمة الخيرة الفائقة، وكل فرد مسلم ملزم بواجبات معلومة تجاه تلك الأمة، ولذلك فكل جماعة إسلامية سواء أكانت أكثرية أم أقلية في بلد ما ملزمة بتكوين أمة إسلامية بكل ما يعنيه ذلك من معنى، وهي ملزمة من بعد بالقيام بأركان الدين الملزمة لتلك الأمة وعلي رأسها الحفاظ علي وحدة الأمة وتقوية بنيانها، وتلك الأمة ملزمة أيضا بتحقيق مقاصد الدين العظمى والالتزام بما تمليه عليها هذه المقاصد من التزامات وواجبات تجاه من يشاركونهم في نفس الوطن، وبكلمات أخرى هي ملزمة بالقيام بباقي أركان الدين الملزمة للأمة، فالأمة هي مجتمع المسلمين ذي البنية والوصلات، وهي يجب أن تكون كالجسد الواحد ويمكن أن تاوجد في أية دولة دون أن تكون مضطرة للتصادم معها.
أما الدولة فهي منتج ثانوي ويستلزم وجودَها تدهورُ الأمة واحتياجها إلى سلطة دنيوية لإدارة أمورها، إنه عند عدم وجود نصاب يعتد به من المؤمنين المخلصين ومن أولي الأمر الحقيقيين بحيث لا تستطيع الأمة تحقيق مقاصد الدين أو الرقي لمستوى قيمه ومُثُله يصبح وجود السلطة أو الدولة أمراً لازماً، أما الشكل العام لتلك الدولة فهو متروك لظروف كل عصر ودرجة تطور وخصائص كل مصر، وبالطبع لم يكن لدين من سماته العالمية والصلاحية لكل زمان ومكان أن يُجمِّد ما هو سيال متطور بحكم طبيعته.
------------
من مقاصد الدين العظمى إعداد الأمة الخيرة المؤمنة الصالحة التي تجسد المثل الإنساني الأعلى على المستوى العالمي، هذه الأمة لا يتسلط أحد منها عليها وإنما تدير أمور نفسها بنفسها بواسطة أولي الأمر المؤهلين منها، وكل فرد فيها آمر مأمور، حاكم محكوم.
أما الدولة فهي مفهوم حديث يتطور ويتغير مع الزمن، فالدولة الآن تختلف اختلافا شاسعا عما كان يُسمى بالدولة الأموية أو العباسية أو العثمانية، وكلها كانت بصفة عامة كيانات إجرامية دموية شيطانية كل الحقوق فيها للمتسلط على الناس ولا حق لهم عليه، فالعلاقة بين المتسلط وبين الناس الذين ابتلوا به علاقة قاهر بمقهور أو مجرم بضحاياه، أما الدولة في الغرب الآن مثلا فهي دولة عقد اجتماعي وحقوق إنسان ورفاه وضمان اجتماعي وتكافل.
ولما كانت المذاهب التي حلت محلّ الإسلام قد نشأت ونمت وترعرعت في ظل الكيانين الإجراميين الأموي والعباسي فمن البديهي أن تجعل أعمالهما مقياس الحقيقة والشريعة، لذلك فسعي جماعات الإجرام السياسي لإعادة ما يسمى بالخلافة هو كارثة كبرى تهدد التطور البشري!
-------
إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لم يرسل ليؤسس دولة يكون هو ملكها أو رئيسها ويستخلف عليها أحداً من بعده، وإنما ليحقق مقاصد الدين العظمي ومنها إعداد الأمة الخيرة الفائقة التي ليست بحاجة إلي سلطة قهرية لتمارس مهامها المنوطة بها في الداخل والخارج، وكان ضمان تماسك الأمة هو الضمير الجمعي المؤمن الذي يدفعهم إلي أن يتجنبوا مخالفة القانون الذي هو جماع أحكام الشريعة والذي يجعلهم يجلون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ويلتزمون اختيارياً بطاعته ويحكمونه فيما يشجر فيما بينهم ويسعون إليه طلباً لتطهيرهم بإنزال العقاب اللازم بهم إذا ما أخطئوا بمخالفة القانون، وكان هو لا يمارس من أعمال السيادة إلا التأكد من إقرارهم بالشهادة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ويترك كل كيان يمارس سلطانه علي مكوناته، وقد نفى الله تعالى عنه في القرءان كل ما يلزم ليكون رأس دولة بأي مفهوم من المفاهيم، فهو لم يكن عليها حفيظا ولا مصيطرا ولا جبارا ولا وكيلا ولا ملكا ولا رئيسا، وكان يترك كل كيان أسلم على ما كان عليه من نظام ويكتفي بإرسال قاضٍ ومن يعلمهم أصول الدين ويأخذ منهم الصدقات ليردها على فقرائهم بعد أداء النصيب المعلوم المخصص طبقا للقرءان.
أما الدولة فإنما بدأت في التكون علي يد الخليفة أبي بكر لطبيعة الظروف وأحوال الناس الحقيقية، وكان تكونها على حساب كيان الأمة الخيرة الفائقة، حتى إذا ما أخذت الدولة شكلها التقليدي علي يد الطليق معاوية زعيم أهل البغي والقدوة الحقيقية للمتسلطين ومن شايعهم من المنافقين كانت الأمة الخيرة الفائقة على وشك الانقضاء إلي أن أجهز عليها اللعين يزيد.
------------
لم يؤسس الرسول دولة ليستخلف عليها أحدا، وهو لم يكن عليهم جبارا ولا مسيطرا ولا وكيلا ولا ملكا ولا إمبراطورا ليعين عليهم حاكما سياسيا، وإنما كان رسولا نبيا وولي أمر الأمة الوليدة، وكانت له مهام مذكورة في القرءان، وأكثر المسلمين (حوالي 117 ألفا من حوالي 120 ألفا) لم يسلموا إلا بعد الفتح ولم يهاجروا ولم يتلقوا ما يلزم من التعليم والتزكية على يد الرسول، ولذلك ولَّى عليها الإمام علي ليقوم بمثل هذه المهام، وليس كحاكم سياسي بالمعنى القديم أو الحديث، والرسول  ليس مسئولا عما سيحدث من بعده، فهو أدى الأمانة وبلَّغ الرسالة وأصبح كل فرد من بعده مسئولا عن نفسه، ولكنهم لم يرتقوا بصفة عامة إلى ما كان يريده منهم، وبدأ الانحراف حتى أثناء مرضه، والذي حدث في السقيفة هو بداية تحويل الأمة إلى دولة سلطوية مركزية على نمط دول العصور الوسطى، أي لا تتعامل مع الآخرين إلا بالقوة، ولا يتحمل الإسلام وزر أعمال أحد من بعد الرسول.
لو كان منوطا بالرسول من الناحية الدينية بناء دولة لورد ذلك في القرءان ولوردت نصوص تحدد بدقة شكلها وتنظيمها، فليس الأمر مجرد نص على اسم من سيخلفه، ولو كان ذلك هو الحال لما كان الإسلام دينا عالميا ملزما للناس كافة إلى يوم الدين، فشكل الدولة يتغير بتغير العصر والمصر، الرسول بنى أمة طبقاً للأوامر القرءانية، ولم يؤسس دولة؛ الفرق هائل.
وهو بإعلانه أن الإمام عليا ولي كل مؤمن كان يعلن عليهم من هو سابقهم وأفضلهم وأولى الناس بتعليمهم وتزكيتهم.
الإسلام دين ملزم للفرد وللأمة، والأمة هي المجتمع الإسلامي المتماسك المترابط، ولذلك هناك أركان ملزمة للفرد وأركان ملزمة للأمة، وكل فرد في الإسلام آمر حاكم في مجاله مأمور محكوم في المجالات الأخرى، ولا علاقة للإسلام بكافة أشكال التسلط على الناس؛ أي كافة صور الدولة، هذه الكيانات خاضعة لظروف التطور، فلم يكن للدين الملزم للناس كافة أن يفرض نمطا ثابتا لها ولا أن يجمد ما هو سيال بطبيعته، وما يُسمى بالخلافة الراشدة كان نظاما توصل إليه أهل القرن الأول بمحض اجتهاد منهم لم يجمعوا عليه، بل ارتضته قلة وفرضته على كل الناس بالبطش والقوة، ولقد قضوا هم بأنفسهم عليه من بعد، واستبدلوا به حكما إجراميا دمويا بقيادة أهل البغي والداعين إلى النار، فلم يكن لديهم شكل مثالي للدولة يمكن للناس أن يتأسوا به.
والإسلام يزود الفرد والأمة بما يلزم من السنن والمعلومات والآليات التي تضمن للفرد والأمة التعايش السلمي المثمر البناء مع الآخرين، وغير مسموح لمجموعة من المحسوبين على الإسلام بشن حروب على المسلمين الآخرين أو غير المسلمين تحت أي زعم، ومن يفعل ذلك فقد خسر الدنيا والآخرة.
والصورة المثلى في الإسلام هو وجود أمة حرة لا تخضع لأي نوع من أنواع التسلط مثلما كان الحال في العصر النبوي، فلم يكن الرسول عليهم جبارا ولا حفيظا ولا مسيطرا ولا وكيلا ولا ملكا ولا إمبراطورا، ولكن وجود مثل هذه الأمة هو حلم مضى، وكل البشرية تحاول تحقيقه، وأقرب الناس إليه هم الشعوب الاسكندنافية وسويسرا، وبالطبع فالمسلمون مطالبون بالعمل السلمي والسعي الجاد للوصول إلى حالة كهذه.
=======
يتساءل البعض عن السبب الذي جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لا يولي الأمر أحداً من بعده مع أنه اهتم بأمور أخري أقل أهمية مثل الإيجارات والبيوع والشفعة وآداب الاستئناس....إلخ، ومن المعلوم أن الشيعة قد زعموا أنه أوصي للإمام علي بالأمر من بعده مستندين إلي هذه الحجة، والحق هاهنا هو أنه لم يوص بالأمر لأحد من بعده، ذلك لأنه كان رسولاً نبيا، ومن المعلوم أن هذه المرتبة قد خُتِمت به، فهي لا تورث، وهو لم يؤسس دولة ليولي أحدا حكمها أو ملكها، ولم يكن ذلك من مهامه أبدا، فلقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ رسولاً للعالمين وحاملاً للرسالة العالمية الخاتمة، وكان أيضاً ولي أمر تلك الجماعة المؤمنة، وكان منوطاً به تحقيق مقاصد الدين ومنها إعداد الأمة الخيرة الفائقة، وهو لم يكن ليلزم الناس بشكل معين من أشكال ولاية وتصريف الأمور لأن ذلك يتنافى تماما مع سمات ذلك الدين الخاتم الذي أتي به للناس، فهو لم يكن ليلزم الناس بما يقوض الرسالة التي حملها إليهم، ولا يعني ذلك أبداً كما يزعم المغرضون أنه لا شأن للدين بمثل هذه الأمور ولا أنه ترك للناس أمور دنياهم لأنهم أعلم بها من ربهم ومنه، ذلك لأن لب المقاصد الدينية هو إعداد الإنسان للعيش السعيد في الدنيا والآخرة ومن لوازم ذلك أداء الأمانات إلي أهلها والحكم بالعدل والقيام بالقسط، ولقد سبق بيان أن لب أركان الدين هو إقامة صلة وثيقة بين الإنسان وبين ربه، ولكن هذا يستلزم أيضا أن يلتزم الإنسان بأوامر ربه في تعامله مع سائر خلقه الذين هم آثار ومظاهر تجليات أسمائه وأفعاله، فلا يمكن أبدا تجزئة الدين ولا جعله عضين، ولو اختار لهم نظاماً لولاية الأمر لكان لزاماً أن يراعي في ذلك أحوالهم الحضارية والثقافية والأدبية والخلقية ولجاء من بعدهم من يظن أن الصورة التي اختارها هي أمر ديني ملزم ولتعارض ذلك مع عالمية الدين وخاتميته ومع السنن الكونية الخاصة بالمخيرين والتي تستلزم النسخ والتطور، إن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لم يكن من مهامه أبداً تأسيس دولة وإنما إبلاغ الرسالة البلاغ المبين وتعليم الأميين وتزكيتهم وتحقيق مقاصد الدين ومنها بناء الأمة الخيرة، ولذلك لم يكن من مهامه أن يرشح أحداً ليلي أمر دولة لم يقم بتأسيسها بل كان من مهامه حماية الأمة من شرها، أما الذي أقامه بالفعل فهو أمة تحكم نفسها بنفسها ويتولي أمورها هيئات مؤهلة منها وكل فرد فيها هو جندي من جنودها وداعية إلي عقيدتها ودينها.
ولكن كان من الواجب أن يعلن عليهم من يلي الأمر في مهامه الحقيقية والتي تتضمن تلاوة القرءان عليهم وتعليمهم وتزكيتهم، وهذه المهام قد أعلن أن عليّ بن أبي طالب هو الولي من بعده فيها.
ومن المعلوم أن الناس قد وثَّنوا كل ما نُسب إلي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ من مرويات أكثرها مختلق أو محرَّف واعتبروها عملياً آيات تتلى وتُفسَّر وتقضي على كتاب الله العزيز رغم أنه حذرهم تحذيراً شديداً من كتابة أقواله، فلو ولى عليهم أحداً من بعده كحاكم لصارت أعماله وأقواله من صميم الدين ولأخذت أوامر الدين في التكاثر والتضاعف حيناً بعد حين ولاختفي الإسلام الحقيقي بعد حين، ولعُدَّ النظام الذي سيلتزم به هذا الخليفة نظاماً مقدساً لا تبديل له ولا تحويل.
ولقد سنَّ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ للناس ما يلزمهم من صور المعاملات أو أرشدهم إلي ما يجب تعديله من صورها المعروفة لهم حتى تتفق والإسلام، والحق هو أن كل ولي أمر علي إلمام بمقاصد الدين وقيمه وسننه وأركانه يمكنه أن يستنبط لأهل عصره ومصره ما يلزمهم من صور المعاملات أو أن يكيفها لتتفق مع قيم الإسلام ومثله، ومن المعلوم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قد نهي الناس عن أن يكتبوا عنه غير القرءان، وكان من أسباب ذلك ألا يتصوروا أن صور المعاملات التي عرفها الأعراب هي صور مقدسة يجب دائما التقيد بها، وهو لم يأمر أحدا بأن يدون أنه كان يقاتل بالسيف والرمح مثلا حتى لا يتصور بعضهم أن القتال بهما بالذات هو سنته الملزمة للناس إلي يوم القيامة، ومع ذلك فلقد امتنع بعضهم عن استعمال ما استجد من أسلحة أخذاً بالمفهوم الخاص للسنة فتسبب في هزيمة بلاده وخرابها،ولقد لقي كل من محمد علي في مصر والخليفة العثماني في تركيا عنتاً شديدا من "المشايخ" والناس عندما أرادا إعداد جيوش حديثة على النمط الغربي!
إن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان يعلم تماماً طبيعة المهام المنوطة به تجاه قومه وتجاه سائر الناس، فلقد كان يعلم أنه الرسول الخاتم والرحمة المهداة وكان يعلم أنه بانتقاله إلي الرفيق الأعلى ستتغير المهام المنوطة به فيصبح محورها الشهادة علي قومه وعلي سائر الناس، فلم يكن مطلوباً منه أن يكرههم على يضمن لهم السعادة والفلاح وإنما كان منوطاً به أن يهديهم وأن يعلمهم ما يلزم لذلك، لذلك أشهدهم علي أنفسهم أنه بلغ الرسالة وأدي الأمانة ونهاهم عن أن يرجعوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض وأعلمهم أنه ترك فيهم ما إن تمسكوا به فلن يضلوا بعده أبدا وهو كتاب الله العزيز، ولكنه كان يعلم أيضا أن أكثرهم أسلموا فقط ولما يؤمنوا وأن أكثرهم كسائر الناس لا يسمعون ولا يعقلون ولا يتبعون إلا الظن وأن حمية الجاهلية ما زالت حية وقوية في نفوسهم وأن الدنيا دار ابتلاء وليست بدار جزاء وأنه لا يمكن إرغام الأمور علي أن تسير علي ما ليس من ديدنها وأنه لا تبديل للسنن، ولذلك لم يرد أن يلزمهم بما قد يؤدي إلي تمرد وكفر وارتداد معظمهم وتَرَكهم ليدبروا أمورهم بأنفسهم، ولإن يقال إن أحدهم قد عصي أمر الخليفة لأهون من أن يقال إنه عصي أمر الله ورسوله، لقد كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ رحمة للعالمين، وكان رجلاً حيياً كريما نبيلا وبالمؤمنين رءوفا رحيما وكان أصبر الناس علي أذي الناس في حياته وبعد انتقاله، وبه تأسي أهل بيته الحقيقيون، فالنبل والحياء والرحمة والطيبة من أبرز سمات أهل بيته الحقيقيين.
=======
يجب التمييز بين الدولة وبين الأمة، الرسول كوَّن وربَّى أمة، كان كل فرد فيها يقوم كل ما يمكنه القيام به من مهام، وكان أيضاً جنديا في جيشها، وكانوا يتحاكمون إليه في أمورهم أو يتحاكمون إلى من يختاره لذلك، ولم يكن لهذا الكيان السلطوي المسمى بالدولة بكافة صورها القديمة والحديثة أي وجود؛ هذه حقيقة وبديهية، وكان الناس يطيعون الرسول ليس كملك أو سلطان أو خليفة بل كنبي مرسل أوجب عليهم الله تعالى في الكتاب العزيز طاعته، ولذلك وردت أوامر عديدة تلزمهم بطاعته، كما وردت آيات عديدة تنفي عنه كل صور التسلط اللازمة للدولة، ذلك كان الأمر في العصر النبوي.
وأوامر القرءان موجهة إما إلى الفرد وإما إلى أمة أو جماعة المؤمنين المترابطة، والمسلم يعلم بالبديهة من القرءان كيف يميز بين الأمرين، فهو يعلم مثلا أنه إذا كان يعيش غريبا في بلد لوحده لن يكون ملزما بالصلوات الجماعية.
 فالأمر بالقتال وإعداد القوة المادية مثلا موجه إلى الأمة المستقلة بأمورها وليس إلى الفرد أو إلى مجموعة تحيا في بلد غير مسلم.
فالأوامر موجهة إلى الكيان الحاضر الذي يستطيع القيام بها، مثال:
يوجد رجل فقير ومسكين، ليس لديه من المال ما يؤدي به الزكاة، إذاً ليس عليه أداؤها، وهو ليس ملزما بأن يجعل كل همه أن يجمع المال ويصبح غنيا بحجة أنه يريد أن يؤدي الزكاة، توجد أوامر دينية كبرى يمكن أن تشغل كل أوقاته.
وإذا كان الرجل لا يستطيع سبيلا إلى الحج ليس له أن يكون غاية همه جمع المال ليحج، بل عليه القيام بما يستطيع من أوامر الدين الأخرى.
لذلك إذا كانت جماعة المؤمنين تشكل أمة حقيقية فهي تكون ملزمة بالعمل بكل الأوامر الملزمة للأمة.
ولكن ما العمل إذا كانت توجد مجموعة من المؤمنين في بلد الآن مثلا، هل هم مطالبون بالتآمر على هذه الدولة للاستيلاء على السلطة حتى يمكن تنفيذ العقوبات المعروفة مثلا؟
كلا بالطبع، وتعاليم الدين تمنعه من ذلك، ولكن هذه المجموعة ملزمة بتكوين أمة أي لابد من أن يكون لجماعتهم بنية، وهذا يعني إقامة وتوطيد قنوات اتصال فيما بينهم، وهذا من أوائل الأركان الملزمة لهم كأمة؛ فثمة أركان دينية ملزمة للأمة كما أوضحنا في الهيكل العام لدين الحق الذي نعلمه، ودين الحق يلزم مثل هذه الجماعة بالتعايش السلمي المثمر البناء مع الآخرين، فهم يتنافسون معهم لتحقيق صالح البلد الذي يعيشون فيه، وبالطبع لهم أن يدعو الناس إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
الإسلام دين يستطيع أن يمارسه الإنسان في كل مكان وداخل أي كيان كسائر الأديان، ولا وجود لشيء اسمه الدولة في الإسلام، هذا زعم باطل بلا أوهى دليل، وهو يتناقض مع عالمية الإسلام، ولو كان المسلمون كأمر واجب أو كركن ديني لورد ذلك في عبارات قطعية الدلالة، ولو كان الأمر كذلك لكان على المسلمين أن يظلوا في صراع دائم مع البشرية جمعاء ومع أنفسهم إلى يوم الدين، وهذا يتضمن اتهام رب العالمين بأنه يريد للبشرية أن تظل في صراع دموي مهلك، الإسلام دين له مقاصده العظمى وأركانه الكبرى، والأمة الإسلامية تستطيع أن توجد داخل أي كيان مثل انجلترا أو فرنسا أو كندا أو أمريكا .... الخ وأن تقوم بكل ما تستطيع من أركان الدين الملزمة لها لتحقق مقاصد الدين القرءانية، هذا هو أقصى المطلوب، الإسلام دين مثله مثل سائر الأديان، يستطيع أن يمارسه أي فرد أو أية جماعة داخل أي كيان دون أن يصطدم بالضرورة اصطداما داميا بهذا الكيان.
ولو علم الناس أركان الدين الكبرى ومقاصده العظمى كما هي في دين الحق لما كان هناك أية مشكلة.
=======
لم يؤسس الرسول دولة ليستخلف عليها أحدا، وهو لم يكن عليهم جبارا ولا مسيطرا ولا وكيلا ولا ملكا ولا إمبراطورا ليعين عليهم حاكما سياسيا، وإنما كان رسولا نبيا وولي أمر الأمة الوليدة، وكانت له مهام مذكورة في القرءان، وأكثر المسلمين (حوالي 117 ألفا من حوالي 120 ألفا) لم يسلموا إلا بعد فتح الحديبية ولم يهاجروا ولم يتلقوا ما يلزم من التعليم والتزكية على يد الرسول، ولذلك ولَّى عليها الإمام علي ليقوم بمثل هذه المهام، وليس كحاكم سياسي بالمعنى القديم أو الحديث، والرسول  ليس مسئولا عما سيحدث من بعده، فهو أدى الأمانة وبلَّغ الرسالة وأشهدهم على ذلك وأصبح كل فرد من بعده مسئولا عن نفسه، ولكنهم لم يرتقوا بصفة عامة إلى ما كان يريده منهم، وبدأ الانحراف حتى أثناء مرضه، والذي حدث في السقيفة هو بداية تحويل الأمة إلى دولة سلطوية مركزية على نمط دول العصور الوسطى، أي لا تتعامل مع الآخرين إلا بالبطش والقوة، ولا يتحمل الإسلام وزر أعمال أحد من بعد الرسول.
لو كان منوطا بالرسول من الناحية الدينية بناء دولة لورد ذلك في القرءان ولوردت نصوص تحدد بدقة شكلها وتنظيمها، فليس الأمر مجرد نص على اسم من سيخلفه، ولو كان ذلك هو الحال لما كان الإسلام دينا عالميا ملزما للناس كافة إلى يوم الدين، فشكل الدولة يتغير بتغير العصر والمصر، الرسول بنى أمة طبقاً للأوامر القرءانية، ولم يؤسس دولة؛ الفرق هائل.
وهو بإعلانه أن الإمام عليا ولي كل مؤمن كان يعلن عليهم من هو سابقهم وأفضلهم وأولى الناس بتعليمهم وتزكيتهم.
=======
إن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لم يترك أمر الناس هملا عندما لم يعين عليهم خليفة أو ولي أمر من بعده، ولكنه كان يعلم تماما أنه لم يكن له ذلك وأن تولية أحدهم الأمر من بعده لم يكن من المهام المنوطة به، بل إن طبيعة مهامه كانت تقتضي ألا يلزمهم بأمرٍ ما وأن يتركهم ليتدبروا أمرهم وفق المستوى الديني والثقافي والمعرفي الذي صاروا عليه ووفقا لظروفهم وطبيعة عصرهم، وأن المنوط به هو الشهادة عليهم، ولو كان من مهامه تولية الأمر لأحد من بعده لأخذ له البيعة العامة منهم ولأصبح ذلك من المعلوم للعرب أجمعين بالضرورة.
إنه بانتقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أصبحت نظم القيام بالأمور وتصريفها منوطة بالناس يقررونها وفق أحوالهم وظروفهم ومستوياتهم الثقافية والحضارية والاقتصادية والدينية، أما الدين فقد قرر الأسس والقوانين والقيم اللازمة للقيام بأمور الناس، ولكنه أقر أيضاً بحقيقة الأمر الواقع وهي أن أكثر الناس لا يعقلون ولا يعلمون ولا يسمعون ولا يتبعون إلا الأهواء والظنون وما ألفوا عليه آباءهم وأن أكثرهم لا يؤمنون وإن آمنوا فهم يشركون ويظلمون، كما قرر أن أكثرهم لا عهد له وأن أكثرهم فاسقون، لكل ذلك فإن الرحمة العامة اقتضت ألا يُلزم الناس كافة بما لا يمكنهم أبداً الالتزام به.
------------
إن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قد أقام نظاماً فريداً لإدارة وتصريف أمور الأمة، فاختار لكل أمر أفضل العناصر استعداداً له وأصبح منوطاً بهم التصرف في الأمر وفق ما علمهم، فكان هناك حفظة القرءان وكتبة الوحي وهيئة الاستنباط والقادة التكتيكيين والقادة الاستراتيجيين..إلخ، وكانت الشوري بينه وبينهم والشورى بين أعضاء كل هيئة هي الآلية المتبعة والملزمة، ولقد كان النظام الذي أرساه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ هو الذي أعطاهم القوة والمنعة بحيث تمكنوا في زمن وجيز من قهر كل من الفرس والروم المعتدين المتغطرسين، والحق هو أن الأمة مدينة بكل أمورها الإيجابية إلى ذلك المجهود الذي بذله الرسول طوال العصر النبوي.
------------
من سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العمل علي تحقيق مقاصد الدين ببناء وإعداد أمة خيرة فائقة تسير وتصرف أمور نفسها بنفسها بواسطة هيئات من أولي أمر منها، وتكون السيادة فيها للحق والعدل وألا توجد دولة تتسلط علي الناس وتحكمهم بالجبر والإكراه، وتلك هي السنة التي سنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنها كانت أيضاً من أول ما خالفه الناس عندما هرعوا إلى السقيفة ليولوا واحداً منهم عليهم، وكان من الأولى أن يظهروا زهداً في هذا المنصب وأن يتعاونوا وأن يتواصوا بالحق وأن يشكلوا هيئة قيادة جماعية لتصريف الأمور تكون ممثلة لكافة قوى الأمة، ولكن كان من الصعب أن يعلو الناس فوق مقتضيات عصرهم وبيئتهم.
------------
من الدلائل على أنه كان المقصود بناء أمة وليس دولة الموقف من المنافقين؛ فرغم أن القرءان قد كشف للناس أفعالهم وكيدهم الذي لا يتوقف ضد الإسلام فإنه لم يشرع عقاباً بشأنهم حتى ولو تهربوا مما كتب على الأمة من القتال ولو امتنعوا عن إيتاء الزكاة، بل لقد أُمر الرسول ألا يقبل منهم صدقات وألا يسمح لهم بأن يقاتلوا معه عدوا، كل ذلك لكونه رسولا نبيا، ولو كان الرسول رئيسا لدولة لما تخلَّف أحد عن الخروج معه للقتال ولما امتنع أحد عن إيتاء الزكاة ولما تركهم يفعلون ذلك، فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان يتصرف كرسول نبي يتلقى الوحي ويعمل بمقتضاه وليس كملك أو كمتسلط أو كحاكم Ruler.
------------
إن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لم يؤسس أبدا دولة وفق أي تصور من التصورات أو مفهوم من المفاهيم، ولم يكن ذلك أبداً من المهام المنوطة به، وإنما بنى وأعد أمة خيرة، ولم يستطع قومه أبداً إدراك تلك الحقيقة البسيطة، وعنهم أخذ الناس هذا اللاإدراك، وإنما كان المنوط به بناء أمة تحكم نفسها بنفسها وتصرف أمورها وتتخذ قراراتها بالشورى بين أولى الأمر منها، وهم هنا أفضل من انتفعوا بالتعلم والتزكي علي يد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وأظهر كل واحد منهم تفوقه في مجال ما، ولقد كان من مهام الرسول تعليم أمته وتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والحكمة، وكان من مقاصد ذلك إبراز وإظهار أفضلهم وأكرمهم بغض النظر عن معايير الجاهلية، وهكذا برز أبو بكر وعمر رغم أنهما كانا من فرعين لا وزن لهما من قريش، وكان على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بعد أن أدي رسالته وتأهب للرحيل أن يتركهم ليعملوا وفق ما رباهم عليه آخذين في الاعتبار ظروف عصرهم وبيئتهم، ولقد كان أبو بكر الصديق أسرعهم إلى إدراك أنه لابد من بناء دولة موحدة؛ أي كيان سياسي مركزي موحد، كان هذا أمرا محدثاً جديدا حتى بالنسبة للعرب والأعراب، ولكن لم يكن هناك مناص منه بالنظر إلى الظروف السائدة آنذاك وطبائع الأعراب والناس، وبذلك كان رجل الساعة وتفوق عليهم وأثبت جدارته وأهليته، ولقد أدرك أن ذلك يلزمه باعتبار إيتاء الزكاة عملاً من أعمال السيادة في دولة ذات منطلقات إسلامية وأن قوم النبي ملزمون بأدائها كعمل من أعمال إظهار وتأكيد الهوية والانتماء للأمة، وأن الأمر الموجه إلى النبي بألا يأخذها ممن بخل بها –وهو عقوبة رهيبة بمثابة الطرد من الأمة أو الحرم-كان خاصاً بالنبي وأن الأعراب لن يعبئوا بعقوبة كهذه، ولقد كان يعلم أن الأمور الاستراتيجية قد تضطره إلى مخالفة المثاليات الإسلامية الرفيعة واتخاذ مواقف عملية براجماتية، ولقد أضناه بالفعل الصراع بين الطائفتين من اللوازم والمقتضيات في داخل نفسه، ولقد ظهر هذا جلياً في موقفه من أهل بيت النبي الأقربين، والحق هو أن أمور هذا العالم متداخلة متشابكة ولابد فيها من ابتلاء هذا بذاك، وعلى كل الأطراف أن تتحلي بالتسامح والصبر والصفح الجميل.
------------
إن النظام المثالي في الإسلام هو أن يكون ثمة أمة تدير أمور نفسها بنفسها ولا يتسلط عليها شخص منها أو من غيرها، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان إماماً وولي أمر ولم يكن ملكاً ولا متسلطاً ولا مسيطراً ولا جبارا، ولقد شكل ما هو أشبه بالهيئات التي كان منوطاً بكل هيئة منها تلقي العلم منه في مجال أو أمر معين، وكان يسند إليهم بعض الأمور حتى يتمرسوا في المجالات المذكورة ويكتسبوا الخبرات، ولقد كان من أسباب تعدد زيجاته أن يكون ثمة هيئة تتلقي العلم في كل ما يختص بالأمور الخاصة بالنساء وذكر ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة للناس، فالرسالة كانت للناس كافة؛ رجالا ونساء، ولذلك كانت أكثر زيجات الرسول في المدينة عندما كان يعد ويبني الأمة الإسلامية، إن كل ذلك اقتضى تكوين هيئة نسائية، ولقد كان لابد من نصاب كافٍ منهن بمجرد اكتماله طُلِب من الرسول ألا ينكح غيرهن ولا أن يستبدل بهن من أزواج، ولقد بين الله في كتابه أنه كان ثمة نساء أفضل منهن في كافة الأمور بما فيها الصفات الدينية، والعشرة الذين ظن الناس أنهم مبشرون بالجنة تلقوا العلم اللازم لإدارة أمر الأمة، ولقد دهش بعض المستشرقين إذ ظنوا أن العرب تحولوا فجأة إلي قادة وساسة وعلماء...، والحق هو أن اكتساب العرب –في زمن وجيز- كل المهارات التي أدهشت المؤرخين وأذهلتهم كان بفعل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ومن ثمرات جهده ومن مظاهر نجاحه في تحقيق ما نيط به من مهام، ويجب القول بأن الانقلاب علي الأعقاب الذي بدأ بمجرد انتقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أدي إلي الإيقاف التدريجي لأنشطة تلك الهيئات فأُلزمت أكثر أمهات المؤمنين بالصمت وتمت محاصرة الإمام علي ولي أمر التعليم وتزكية النفوس واستبد بالأمر القائم على الأمر واستفحل أمر الدولة علي حساب الأمة.
أما الإنجازات الهائلة التي حققها المسلمون في زمن وجيز فكانت من ثمار نجاح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نجاحاً باهراً مطلقاً في أداء كل ما نيط به من المهام وهي كثيرة وجسيمة.
------------
إن النبي قد أقام نظاماً فريداً لإدارة وتصريف أمور الأمة، ذلك هو نظام أولي الأمر، وهو النظام الذي تميز به الإسلام وسبق به المؤمنون آنذاك العصر، وقد اختار النبي لكل أمر أفضل العناصر استعداداً له وأصبح منوطاً بهم التصرف في الأمر وفق ما علمهم، فكان هناك حفظة القرءان وكتبة الوحي وهيئة الاستنباط والقادة التكتيكيين والقادة الاستراتيجيين..إلخ، وكانت الشورى بينه وبينهم وبين أعضاء كل هيئة فيما بينهم هي الآلية المتبعة والملزمة، ولقد كان النظام الذي أرساه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ هو الذي أعطاهم القوة والمنعة بحيث تمكنوا في زمن وجيز من قهر كل من الفرس والروم، والحق هو أن الأمة مدينة بكل أمورها الإيجابية إلى ذلك المجهود الذي بذله الرسول طوال العصر النبوي.
------------
إن الموقف من المنافقين لمما يبين أنه لم يكن منوطاً بالرسول إنشاء دولة، فقد أُمر بألا يأخذ الزكاة منهم ولو كان رئيساً لدولة لحملهم علي دفعها، ولو كان مؤسساً لدولة لأوصى بأمرها لواحد من بعده ولوضع لها القواعد والأسس، لقد كان نبياً رسولاً وأنيط به تحقيق مقاصد الدين العظمى ومنها لإعداد وبناء الأمة الخيرة الفائقة بالإضافة إلي تحقيق مقاصد خاصة بقومه، أما من بعده فقد تم بناء دولة لتقود الأمة وتتولى أمورها، وكان الصديق لتفوقه الاستراتيجي الواقعي أول من أدرك شدة الحاجة إلي ذلك، وهذا هو الذي حمله علي اتخاذ موقفه الصارم من الممتنعين عن بيعته وعن إيتاء الزكاة للسلطة المركزية في المدينة، وكان موقف الصديق رغم كل المآخذ عليه هو الموقف العملي الواقعي الوحيد في مثل هذه الظروف، وهو الذي يتحمل مسئولية اختياره هذا، وكان من مزاياه الواضحة الانتشار السريع للإسلام وتقويض تسلط الفرس والروم علي منطقة الشرق الأوسط وحماية الإسلام والأمة الإسلامية الوليدة من خطرهم.
------------
إن الشعار الذي يرفعه بعض المتأسلمين وهو أن الإسلام دين ودولة بكل ما تعنيه كلمة دولة من معانٍ هو بالضرورة شعار خاطئ ومضلل ومبطل، ولن يستفيد من رفعه إلا أعداء الإسلام، وهو مثله كمثل الشعارات المضللة التي رفعها الخوارج من قبل واستحلوا بها لأنفسهم قتل خيرة المسلمين وسفك الدماء والإفساد في الأرض، ولما كان الإسلام هو دين عالمي فإن هذا الشعار يلزم الدولة الإسلامية المزعومة بشن حرب شعواء علي البشرية جمعاء ولا يلتمس عذراً لتلك الدولة إلا ضعفها، هذا في حين أن مذهبهم يلزم المسلمين في الوقت ذاته بالسمع والطاعة لكل من قهرهم وتسلط عليهم من الظلمة الطغاة الفجرة طالما لم يحولوا بين الناس وبين إقامة الصلاة ويحرم عليهم أدنى انتقاد لهم أو أدني انتقاد لمن سبق من أسلافهم، ومن أراد أن يعرف بنفسه فليجرب انتقاد شيء من مخالفات أو جرائم بعض من يسمونهم بالصحابة أو فليجرب حتى ذكر أسماء بعض من فروا في أحد أو حنين أو أسماء بعض من خانوا الله والرسول رغم أن القرءان المتعبد بقراءته وتدبره قد ذكر تلك الوقائع، إن القول بأن الإسلام دولة يتعارض مع القول بعالمية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، وربما لم يكن ثمة شعار كان أسوأ عاقبة على أمة من الأمم من هذا الشعار، ولكن الإسلام هو دين بكل ما تعنيه كلمة دين من معنى بل هو الدين الكامل الخاتم، وهو ملزم لكل من اعتنقه اعتناقاً اختيارياً من الكيانات الإنسانية غير ملزم لمن أبي، وهو يقدم للناس مفهوم الأمة التي يوحدها المقصد والولاء المشترك ويلزمها بنسق خاص من القوانين والقيم والسنن، وهو يقر بإمكان تعدد طوائف المؤمنين ويرشدهم إلي كيفية التعايش ومعالجة الاختلافات، ومن أعلن انتماءه للأمة الإسلامية في وطنٍ ما ثم أضمر النفاق والكفر فليس لأحد سلطان عليه ما لم يشفع نفاقه بالعمل بمقتضاه؛ أي ضد الأمة، أما من خالف بعض أوامر الإسلام من المسلمين فليس بكافر وإنما هو عاص، وقد قرر الإسلام أسلوب التعامل معه، والإسلام لم يعط لأحد حق استتابة الناس أو التفتيش عن نواياهم ومقاصدهم أو الحكم عليهم بكفر أو إيمان، بل إنه بيَّن بكل وضوح أنه ليس لأحد أن يأمن مكر الله ولا أن يدعي أنه ضمن الجنة أو أن النار لن تمسه إلا أياماً معدودة أو أنه ينتمي إلي عائلة مقدسة أو أنه ابن الله أو حبيبه.
إن الإسلام هو دين، بل هو خاتم الأديان بكل ما لكلمة الخاتمية من معنى، وهو دين الحق الملزم لكافة الكيانات الإنسانية من الفرد إلى الأمة، ولكنه ليس بدولة، ولقد كان رفع مثل هذا الشعار من أسوأ الأمور عاقبة علي الأمة، وربما لم يتفوق عليه في السوء من حيث الأثر إلا الشعار الذي رفعه الخوارج قديماً فقتلوا إمام الأمة وسفكوا دماء ما لا يحصى عدده من المسلمين، هذا رغم أن شعارهم كان كلمة حق أريد بها باطل، أما شعار أن الإسلام دولة فهو كلمة باطل أريد بها باطل، إن من مقاصد الإسلام العظمى إعداد وبناء الأمة الخيرة الفائقة الصالحة التي يدير أمورها أولو أمر منها، ولقد سكت عن أمر وجود أجهزة حكم وتسلط، فهي بالنسبة إليه أمر غير مطروح، بل هو مفوض لظروف كل عصر ومصر.
------------
إن شكل نظام الحكم (القيام بالأمر أو ولاية الأمر بالمعنى القرءاني) هو من الأمور المسكوت عنها، وبالتالي فهو متروك لظروف كل عصر ومصر ولمقتضيات التطور والحضارة، وليس لدى متبعي المذاهب والمتأسلمين الجدد ما يقدمونه للناس في هذا الصدد، والحق هو أن الإسلام دين وليس بدولة، ولكن من مقاصده إعداد وبناء الأمة الخيرة الفائقة وتعليمها كيفية التعايش السلمي المثمر مع الأمم الأخرى، ويجب ألا يحاول بعضهم احتكار الإسلام لنفسه ولا التسلط على الناس باسمه.
وبمقتضى سمات الإسلام ومنها العالمية والشمول فإنه لم يفرض عليهم شكلا معيناً للقيام بالأمر، أما ما يسمى بنظام الخلافة فلقد أثبت على مدى التاريخ فشله الذريع وجلب الويلات على هذه الأمة وعلى غيرها من الأمم إلى أن قضى عليه أتاتورك اللعين وذهب غير مأسوف عليه، وهو لم يؤد إلى الحفاظ على الأمة بل كان عبئاً ووبالاً عليها، ومازال المسلمون ومعهم البشرية جمعاء يدفعون إلى الآن ثمن هذا النظام الوبيل.
------------
إن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقصد أبداً إلى بناء دولة لا بالمفهوم القديم ولا بالمفهوم العصري وإنما كان يبني أمة ذات توجهات واحدة ومقاصد واحدة وآمال واحدة ومهام واحدة يكون كل فرد فيها أخاً للآخر مهما اختلفت مكونات الأمة، فالأمة التي أقامها هي تجسيد لحلم الفلاسفة في أمة بلا سلطان قاهر عليها ولا أدوات قمع وإنما تدير أمور نفسها بنفسها ويكون كل فردٍ فيها آمرا مأمورا حاكما محكوما، ولقد قاد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الأمة من حيث أنه رسول نبي ومن حيث أنه ولي أمر لا من حيث أنه حاكم متسلط قاهر عليهم بل كان حكما بينهم يقضي بينهم بما أراه الله، ولأنه كان كذلك فلقد أبي أن يولي أحداً من بعده ولقد أبي أيضا أن يحدد لهم شكلا معينا لإدارة أمورهم لأنه كان يعلم تماماً أن هذا الشكل سيتغير بتغير العصر وتطور الأحوال والحضارة، إن الدين الكامل الخاتم لا يمكن ان يعمد إلى تجميد أوضاع هي متغيرة متطورة بمقتضي القوانين والسنن، ولو ألزمهم بشكل معين للسلطة ولو ولي عليهم في أمورهم التنفيذية أحداً بعينه لما كان هذا الدين عالمياً خاتما، لذلك فمزاعم الشيعة بهذا الخصوص باطلة ولم يكن منوطا بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحديد من يلي الأمر من بعده، ولم يعهد إلى أحد من آل البيت بذلك، ولم يلزم الناس بأن يولوا أحداً من أهل بيته الأمر من بعده، نعم إنه أعلن أن الإمام علي هو ولي كل مؤمن ولكن تلك الولاية هي الولاية الدينية وهي ولاية أسمى من تولي الأمور التنفيذية لأنها ولاية علي المستوي الجوهري، وهي كانت تلزم كل من لم يستكمل تزكية نفسه بأن يتابع الأمر وأن يستمر في تلك التزكية بإشراف الإمام علي، وبالطبع فإن ثلة قليلة من الأولين هي التي التزمت بذلك بينما لم يأبه بالأمر الطلقاء من قريش ممن ظلوا محتفظين بحمية الجاهلية وتصوراتها، وإذا كان هؤلاء الطلقاء كانوا يستكثرون أمر الرسالة علي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ نفسه وكانوا يرون أن مشايخهم أولى بها منه فكيف كانوا سيسلمون بأن الإمام علياً يفوقهم في المكانة الدينية، وكذلك لم يلزمهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما سمي بنظام الخلافة وإنما استُحدِث هذا النظام من بعده باجتهاد الشيخين بصفة أساسية، ولقد ظل عمر بن الخطاب في حيرة من أمر هذا النظام حتى أنه كان يتساءل أحياناً عن حقيقة وضعه.
ولقد أقر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كل القبائل والممالك المستقرة كاليمن وعمان علي النظم التي كانوا عليها بعد أن أسلموا، فلم يعزل ملكاً عن ملكه ولا شيخ قبيلة عن مشيخته وإنما أرسل إليهم فقط من يعلمهم أمور دينهم ومن يقضي بينهم ومن  يجمع الصدقات منهم، وهي صدقات تؤخذ من أغنيائهم لترد على فقرائهم، فهو بالمعنى الحديث لم يتدخل في أمورهم السياسية، ولم يفرض عليهم شكلا معينا للحكم، ولم يدمج الجميع في كيان سياسي واحد، وإذا كان الخلفاء من بعده قد فضلوا أن تكون السلطة مركزية وأن يعينوا هم ولاة علي المناطق المختلفة بمعنى أن يؤسسوا دولة سياسية فلقد كان ذلك محض اجتهاد منهم ونزولا عن الأفق العالي الذي كان في العهد النبوي استجابة للأمر الواقع وطبيعة العصر وللضعف والنقص البشري، ولكن الانحدار كان سريعاً بل حدث ما يشبه الانهيار التراكمي (Avalanche Breakdown) عندما استغل الطلقاء من بني أمية فترة خلافة عثمان أسوأ استغلال واستأثروا بالأمر من دونه وغلبوه علي أمره وطغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد واتَّبعوا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين، وسرعان ما تغلب الملك العضوض الذي جمع بين مساوئ كسرى وقيصر والنظام الجاهلي والذي ظل سائدا إلى مطلع العصر الحديث.
-------
يرفع بعض المحسوبين على الإسلام الشعار القائل بأن الإسلام دين ودولة، ثم يضيفون أن القول بعالمية الإسلام يعني التزام المسلمين بتقويض كل النظم والاستيلاء على كل البلاد ومهاجمة من يلونهم من غير المسلمين وتخييرهم بين أمر من ثلاثة: الإسلام أو القتال أو دفع الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وبداية يجب القول بأن من يتبنون هذا الزعم من كافة المذاهب هم مخطئون؛ بل معتدون مجرمون، والقرءان بنصوصه ومنطوقه وفحواه يدين مسلكهم، وآياته تأمر بالبر والعدل والإحسان والجنوح للسلم وتحرم وتجرم العدوان، أما قولهم بأن هذه الآيات منسوخة بآية السيف فهو من الكفر البواح، وأساليب الدعوة إلى الإسلام كلها أساليب سلمية راقية.
والحق هو أن القول بعالمية الإسلام يعني تقويض الزعم بأنه دولة، فالإسلام هو دين يمكن أن يعتنقه أي إنسان أو أي مجموعة من الناس في أية دولة ويمكن لهؤلاء أن يمارسوا كل أركان الإسلام الحقيقية وأن يحققوا كل مقاصد الإسلام الخاصة بهم والممكنة لهم دون أن يدفعهم لذلك إلي الصدام مع سلطات بلادهم ولا إلي السعي للاستيلاء علي تلك السلطة، فليس مسموحاً للمسلم أن يتمرد علي أبناء وطنه وقومه لمجرد اعتناقه الإسلام، وليس مسموحاً في الإسلام لأقلية إسلامية باتباع أساليب مكيافيلية للتعامل مع الناس، فلابد في الإسلام من شرعية وقدسية الوسائل، والمسلم في أي مكان مطالب بتقديم الأسوة الحسنة والمثل الإسلامي الأعلى لسائر الناس، ولا يجوز للأقلية الإسلامية في بلدٍ ما أن تكون جيتو، وإنما يجب أن تكون مجتمعاً إسلامياً بما يلزم ذلك من مؤسسات مدنية، وعالمية الإسلام تقتضى ألا يتميز المسلم عن مواطنيه في الأمور الشكلية، ومن يري المساجد الإسلامية بطول العالم الإسلامي سيعرف معنى عالمية الإسلام، فثمة أمور أساسية لا يمكن أن تختلف من بلد لآخر، وثمة أمور أخرى شكلية هي مجال لإظهار خصائص كل شعب وتميزه وقدراته.
------------
الذي كان منوطا بالرسول هو تأسيس وإعداد أمة، وهي الجماعة ذات البنيان Structured society، المترابطة وذات المقاصد والمهام المشتركة، وهي يمكن أن تتواجد في أي كيان آخر، الإسلام أولا وقبل كل شيء هو دين عالمي السمات، ولذه الأمة مهامها المحددة بدقة في القرءان، ومن أهمها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحفاظ على وحدتها...الخ.
ولم يكن منوطا بالرسول تأسيس دولة تحت أية صورة من الصور بحيث يكون هو حاكما عليها تحت أي اسم من الأسماء، ولقد نفى الله تعالى عنه كل مواصفات الحاكم في نصوص قطعية الدلالة، فهو لم يكن عليهم بجبار ولا بمصيطر ولا بحفيظ ولا بوكيل، ولم يكن ملكا ولا إمبراطورا ولا رئيس جمهورية ولا شيخ قبيلة، أما الدولة فمهامها معروفة، فهي كيان سياسي يعمل لمصلحة نفسه ككيان أو لمصلحة حاكمه، وكان أهم مطلب لها في العصور الوسطى التوسع على حساب الممالك المجاورة، ولو كان منوطاً بالرسول تأسيس دولة لوضع لها هياكلها بكل وضوح ولولَّى عليها من بعده من يشاء ولبيَّن لهم آلية تداول السلطة.
ولقد كان للرسول مهام بالنسبة لهذه الأمة، منها:
1. الدعوة إلى الله.
2. التبشير.
3. الإنذار.
4. التبليغ.
5. التبيين.
6. تلاوة القرءان عليهم.
7. تزكية أنفسهم.
8. تعليمهم الكتاب والحكمة.
9. تعليمهم ما لم يكونوا يعلمون.
10. ولاية كافة أمورهم.
11. الحكم (القضاء) بينهم.
12. أخذ الصدقات منهم وتوزيعها عليهم.
وبانتقاله كان لابد أن يتولى أمرهم من هو الأقدر بالقيام بهذه المهام، ولقد اختار لهم الإمام عليا ليقوم بذلك عندما قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه"، وقال "أنت مني بمنزلة هارون من موسى".
فهذه نصوص قطعية الدلالة تثبت ما نقوله، فلم يكن هارون ملكا وإنما خليفة عن موسى، وكان المطلوب أن يكون علي بن أبي طالب مولاهم من حيث هم أمة مؤمنة كما كان الرسول كذلك، وليس كرئيس لدولة لم يكن لها وجود.
أما مواصفات الأمة فقد تحدثنا عنها كثيرا، ولم يكن مطلوبا أبدا أن تتحول إلى كيان سياسي يعلن الحرب على البشرية جمعاء!! ولكن هذا ما حدث من بعد!!!!!!!!!!!! ولا علاقة للإسلام بذلك!!!
هذا قولنا الذي انفردنا به، ولم يسبقنا أحد إليه، وهو يختلف عن أقوال كافة المذاهب! فكان المفترض أن يكون عليّ بن أبي طالب ولي أمر الأمة المؤمنة امتدادا لما كان عليه الحال أيام الرسول، وليس رئيسا لكيان سياسي أو لدولة لم يكن لها وجود أصلا!
هذا هو المجتمع المثالي اليوتوبي الذي كان حلم الفلاسفة حيث يقوم كل فرد بكل ما يمكنه القيام به من مهام، فيكون آمرا مأمورا حاكما محكوما جنديا ومدنيا، وهذه الأمة منوط بها القيام بأركان الدين الملزمة للأمة، ومنها أركان خاصة بالمجتمعات الأخرى.
هذا مع العلم بأن قيام الدولة كان أمرا لا مفر منه على المدى الطويل، فلا يمكن أن يظل الناس على الحالة العالية التي ارتقوا إليها بسبب وجود الرسول بينهم، ولحتمية سريان السنن الكونية والتي تقتضي أن يكون المتميزون في المحال الديني الجوهري قلة وأن يكون الأكثرية لا يسمعون ولا يعقلون ولا يفقهون ولا يتبعون إلا الظن وأنهم مشركون ولا يؤمنون وأنهم للحق كارهون وأنهم كالأنعام بل أضل سبيلا...الخ
وكل ما هو مطلوب من الأمة المؤمنة أن تحاول بالطرق السلمية أن ترقى بحال الناس وأن تجعل هذه الدولة أقرب ما يمكن إلى القيم الإسلامية الرفيعة.

إنه ليس ثمة تناقض بين الإسلام وبين الوطنية، والوطنية هي مصطلح حديث معبر عنه في القرءان بلوازمه ومقتضياته، فالوطن هو الديار والأهل والأموال والأصحاب وهو الأمن من الخوف والجوع، والمسلم هو ملزم بالدفاع عنه ضد أي معتد مهما كانت عقيدته، ومن المشاعر الفطرية أن يحب الإنسان وطنه، والإسلام هو دين الفطرة، والوحدة الدولية التي تقرر للإنسان هويته علي المستوى العالمي الآن هي الوطن، وكل وطن يتضمن مجموعة من الطوائف والتجمعات والأمم، ويمكن تصنيف المواطنين من حيثيات عديدة، وبغض النظر عن الظروف التي أدت إلي تلك التعددية فإن كل الطوائف الموجودة في وطن واحد يجب أن تتعايش تعايشاً يضمن حقوق كل فرد ويحميه من تجاوزات الآخرين، لذلك فلابد من اجتماع ممثلين لكافة الطوائف ووضع ميثاق يتضمن أسس هذا التعايش، ودين الحق يتضمن ما هو كافٍ من القيم والسنن لتحقيق التعايش البناء المثمر بين شتى الطوائف التي تعيش في وطن واحد، فإن رفضوه فمواثيق حقوق الإنسان وغيرها هي أفضل ما يمكن أن تتفق عليه كل الطوائف، ويمكن في حالة إجماع كافة الطوائف الممثلة للأمة أن تتخذ من الإجراءات ما يضمن الحفاظ علي قيمها المشتركة وأن تضمن أسس ذلك ميثاقها.
ولا يجوز لأحد محاولة إحياء النعرات التي تؤدي إلى تمزق الأوطان، فأكثر البلدان الموجودة الآن لم يكن لها وجود ككيانات منذ قرن مضى، ولا توجد دولة الآن لم يهاجر إلى أرضها أحد أو لم يهاجر منها أحد، والشخص الذي يستطيع الآن أن يحصل على الجنسية الأمريكية أو الإنجليزية بكل سهولة أو يحصل عليها لابنه المولود هناك لمجرد أنه وُلد هناك ليس من حقه أن يزعم أن له حقوقا في بلده أكثر من حق من يعيش فيها أجداده منذ مئات السنين، فمن انتمى إلى وطن وربط مصيره به يحمل بالضرورة هوية هذا الوطن.
أما المذاهب التي حلَّت محل الإسلام فهي تتضمن كل ما يكفي لتحويل البشر إلى وحوش مفترسة أو حشرات ضارة وكل ما يكفي لتأجيج نيران الكراهية والبغضاء والحروب الأهلية وكل ما يكفي لتدمير البلدان والأوطان، ولا ينقذ الناس من شرها إلا جهلهم بها أو وجود سلطة قاهرة يخشونها وتحمي الناس من شرهم.
------------
لم يكن من مهام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ أن يوصي بالأمر (الحكم السياسي بالمفهوم المعاصر الآن) لأحد من بعده، وإنما هو أعلن على الناس أن الإمام عليا هو سابقهم ووليهم، وهذا لا يعني أنه حاكمهم السياسي، بل يعني أنه كان عليهم أن يرجعوا إليه في المهام التي كانت منوطة بالرسول مثل التعليم والتزكية وتلاوة آيات الكتاب والقضاء واتخاذ القرارات المتعلقة بالشئون العامة، ومن حضروا واقعة غدير خم لم يخطر ببالهم أن الإعلان بولاية الإمام علي سيجعل منه حاكما سياسيا عليهم، بل لم يكن للقبائل العربية في قلب الجزيرة سابق خبرة بأن يتولى عليهم ملك أو حاكم بالمعنى الذي كان مألوفاً للأمم المجاورة؛ والتجارب التي حاولها البعض في هذا الأمر منيت بالفشل الذريع.
فالولاية التي أعلنها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ للإمام عليّ هي ولاية أمر الأمة كأمة وليس رئاسة دولة بالمفهوم السياسي، فلم يكن هناك دولة بل كان هناك أمة ولم يكن الرسول حاكما سياسيا بأي معنى من المعاني.
فلقد كان منوطاً به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحقيق مقاصد الدين ومنها إعداد وبناء الأمة الخيرة الفائقة، وتلك الأمة ليست بالضرورة كياناً سياسياً (بالمعنى الحديث) ولا دولة وإنما هي مجتمع المسلمين (بالمعني الحديث أيضاً) الذي يمتلك بنية واضحة وتجمع أفراده وحدة المقاصد، وهي ليست بحاجة إلى أن يتسلط عليها أحد ولا أن (يحكمها) أحد، كم أنه ليس مطلوباً منها أن تكلف أحداً أن (يحكمها)، وإنما يتولى القيام بأمورها أولو أمر منها في كل مجال من مجالات الحياة، وأولو الأمر هؤلاء مؤمنون بدين الحق، ولكل قيمه ومثله وسننه التقدم عليهم، والقرءان في الحقيقة لم يستعمل كلمة (الحكم) ومشتقاتها بالمعنى الذي صار شائعاً أي To rule، وهو ليس مسئولاً عن تحريف مصطلحاته، وهو لم يجعل ولي أي أمر جبارا ولا مسيطرا ولا وكيلا ولا حفيظا ولا مكرِها لهم على ما لا يريدون ولو كان ما يريده هو أن يؤمنوا، وكل فرد من أفراد الأمة المنشودة منضبط انضباطاً ذاتياً، ومن الأركان الملزمة له أن يطيع ولي الأمر في مجال تخصصه، والشورى هي الآلية الواجب إعمالها في كل أمر بين أولى هذا الأمر، تلك هي الصورة التي يجب أن تكون المثل الأعلى لكل الكيانات الإسلامية.
ولقد تحقق بناء الأمة في العهد النبوي، ثم سرعان ما بعد الناس عنها وانهاروا لتقيدهم بمقتضيات عصرهم وسقفهم الحضاري وبسبب غلبة الطباع البشرية العادية، وترتب على ذلك أن حاولوا أن يصوغوا الدين الذي لم يستطيعوا الارتفاع إلى مستواه بحيث ينزل إلى مستواهم، وصورة الدولة تكون أقرب إلى الإسلام بقدر ما تحقق المثل الإسلامي الأعلى المذكور، وبالطبع فإن النظم المتسلطة على الشعوب المحسوبة على الإسلام هي النقيض التام بالنسبة إلى هذا المثل، ولقد بدأ تآكل الأمة لحساب الدولة منذ بيعة السقيفة، وهذا لا يقدح في إيمان ولا نوايا من شاركوا فيها، وإنما يبين أنهم كانوا بشرا خاضعين لمقتضيات عصرهم وسقفه الحضاري وتوجهاته، ولذلك لا عجب أن بدأت منذ ذلك الحين المخالفات الصريحة لمبادئ الإسلام والخضوع لضرورات ومقتضيات العصر.
------------
يتصور البعض أن مذاهبهم التي حلَّت محلّ الإسلام تغني عن العلمانية بدعوى أن الأسباب التي أدت إلى نشوئها هي خاصة بالغرب وترجع إلى طبيعة ديانته البولسية والتسلط البابوي، والحق هو أن دين الحق وحده هو الذي يغني تماماً عن العلمانية والليبرالية والديمقراطية، أما المذاهب التي حلَّت محله والناتجة عن تفريق الدين وجعل القرءان عضين فهي التي هوت بالأمة إلى هذا الدرك السحيق من الجهل والتخلف والبهيمية والشيطانية، فيلزم التأكيد على أن  شتى المذاهب المتنافية المتناحرة التي أخذت مكان الإسلام والتي أخذت فرصتها كاملة على مدى قرون متطاولة لا تصلح بديلاً عن العلمانية.
------------
إن المنافقين تمتعوا بحريات هائلة في العصر النبوي لم يحظ بمثلها أبداً المعارضون في أي نظام ديمقراطي حديث، ولقد تمتعوا بكامل حقوقهم وحرياتهم، ولقد سجل القرءان كافة ممارساتهم والتي تتضمن السخرية من الله وكتابه ورسوله وتعمد التطاول على الرسول ومحاولة النيل منه، ولقد أُمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بأن يمارس معهم أسمى الفضائل وأن يصبر وأن يصفح الصفح الجميل وأن يدفع سيئاتهم بالتي هي أحسن وأن يجاهدهم بالقرءان، ولكنه لم يؤمر أبدا بقتالهم، ولم يحدث ذلك أبدا، إن وجود المنافقين المعلومين وغير المعلومين في القرن الإسلامي الأول وهو خير القرون يشير إلى أنه لا يجب أبداً توقع إمكان وجود مجتمع ملائكي أبدا وأن ممارسة الفضائل إنما تكون في أي مجتمع مهما كان ولا يجوز إرجاؤها انتظاراً لتحقق شروط لن تتحقق أبدا، إنه يجب القول بأن المجال الطبيعي لممارسة الفضائل ومكارم الأخلاق هو المجتمعات الإنسانية الحقيقية التي يمتزج فيها الخير بالشر، ولذلك كفل القرءان للناس كامل الحرية في الأمور الدينية، ولقد كان خُلُق الرسول هو التحقيق المعنوي لقيم القرءان؛ ولذلك كان بحق رحمة للعالمين.
------------
لقد ذكر القرءان كثيرا من أفعال المنافقين وندد بها وجعلهم في الدرك الأسفل من النار وكشف للناس تآمرهم وأساليب التعرف عليهم، ومع ذلك ورغم كل ذلك لم يأمر بإقامة محاكم تفتيش لهم للتصدي لهم والقضاء على خطرهم ولم يؤمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بقتلهم وإنما نُهِي عن أن يصلي عليهم أو أن يقوم على قبرهم.
أما الآن فلا وجود لجريمة اسمها النفاق رغم وجوده، ولا يجوز لأحد أن يتهم أحدا بها ولا أن يرتب على اتهامه عقوبة دنيوية، وكل الناس عرضة للإصابة بشيء من النفاق فضلا عن الشرك والكفر، ولا يجوز لمن لا يضمن لنفسه حسن الخاتمة أن يجعل من نفسه محكمة تفتيش في ضمائر الآخرين، ومن ظن أنه كذلك فلن يبوء إلا بالخسران المبين.
------------
قال بعض المتأسلمين: إن التشريع لا يكون لغير الله، وإن التشريع من جانب البشر مشاركة لصفة من صفات الله، وبمعنى آخر مشاركة لله تعالى في حاكميته، وهذا في نظرهم شرك كامل وكفر يفضي بالإنسان إلى الجاهلية، والحق هو أن التشريع الديني الذي يترتب على الموقف منه الثواب أو العقاب هو لله وحده، ولكن الإسلام لم ينه أولي الأمر عن إصدار ما يلزم من الأوامر ولا سنّ ما يلزم من تشريعات وقوانين لتصريف أمور الناس وألزم الناس بطاعتهم، أما موقف المتأسلمين فيترتب عليه الاقتصار علي ما أنتجه السلف من تشريعات أو مقولات وإعادة إنتاجها وشرحها، وهذا مما يؤدي إلي تضييق المجال اللازم للإنسان لإعمال ملكاته ويؤدي إلى عدم القيام بما هو ملزم لأولي الأمر من سن ما يلزم للأمة من القوانين في كل عصر ومصر، وهؤلاء المتأسلمون ارتضوا للسلف ما أبوه على الخلف، وهذا سلوك عير منطقي وغير متزن، والحق هو أن الأمة على مدى التاريخ قد احتاجت إلي سنِّ المزيد من الأحكام والقوانين ووضعوا أسساً للقيام بذلك، ولقد تمخض ذلك عن تراث مهول زعموا أنه من الدين، والحق هو أن كل ما تمخض عنه عملهم هو بالأصالة تراث بشري وضعي لا يجوز تقديسه ولا الزعم بأنه مثل للقرءان، ويجب القول هاهنا بأن أكثر التراث المحسوب علي الإسلام هو نتاج عصور جهل وتخلف وانحطاط، ولقد ثبت علي مدى التاريخ مدى إفلاس هذا التراث وفشله الذريع، ولقد جلب الشقاء والخراب علي كل من تمسك به.
ويجب العلم بأن إنقاذ المسلمين في العصور الوسطى كان يتم عادة على أيدي قبائل فتية كانت تعتنقه وتتولي الدفاع عن المسلمين وتؤسس الدول باسم الإسلام ثم سرعان ما تعمل المذاهب اللاسنية التي حلت محل الإسلام فيهم عملها فينهارون وتنهار دولهم.
------------
يجب العلم بأن الإسلام هو أصلاً دين يمكن أن يعتنقه أي إنسان يعيش في أي مجتمع ويجد في رحابه الأمن والطمأنينة والسلام ويزكي به نفسه ويوطد صلته بربه، لذلك فإن أوجب الأمور الآن إبراز مدي إجلال القرءان لشأن الإنسان ودفاعه عن حقوقه وكرامته وعلي رأسها حقه في الحياة الكريمة وحريته، كذلك يجب التأكيد علي إبراز مكانة الإنسان في القرءان كحامل للأمانة ومكرَّم ومفضل ومستخلف في الأرض.
-------
ولقد ضحى المسلمون قديماً وحديثاً بدينهم ودنياهم وحاضرهم ومستقبلهم في سبيل إمام الفئة الباغية وقاتلوا في سبيله أئمة الهدى وخاضوا في دمائهم، ولسوف يستمر المسلمون في تلقي شتى ضروب المهانة والإذلال ما استمروا في تمسكهم بما ألفوا عليه آباءهم من تقديس لأئمة أهل البغي وكفر بالحق، ولقد آن لهم أن يثوبوا إلى رشدهم.
------------
إن الإسلام هو رحمة الله للعالمين وهو ملك للبشرية جمعاء، وهو ليس بسلاح تستأثر به طائفة خاصة وتستغله لشن الحروب على البشرية جمعاء وترويعها وإرهابها.
------------
إن من مقاصد الدين العظمى إعداد وبناء الأمة الخيرة الفائقة، ولقد حقق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ هذا المقصد وأسس تلك الأمة التي تدبر وتصرف أمور نفسها بنفسها وتتكون هيئات أولي الأمر فيها ومنها بطريقة تلقائية ودون حاجة إلي ذلك الجهاز المسمى بالدولة، فلما انتقل أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم واستدعى الأمر بدء تكون الدولة، وكان ذلك علي حساب الأمة، وقد حدث ذلك في عهد أبي بكر، ثم من بعد تسلط الأمويون على أمر الأمة فقضوا علي الأمة قضاءً شبه تام لحساب طغيان سلطة الدولة أو جهاز التسلط، ولم يعد القائم على الأمر يعتبر نفسه مسئولا عن الناس يل مناصرا لقبيلته عدوا لغيرهم، فلما جاء العباسيون تحولت الدولة إلي كيان تسلطي مجرم لا يبالي بالأمة ولا يرقب فيها إلا ولا ذمة، ولقد تعاملوا معها كشعب مقهور؛ ومن ثم طردوا أبناءها من الجيش واستجلبوا الغلمان والعبيد وربوهم ليكونوا وحوشاً كاسرة وكلاب حراسة لهم ضدها، أما في دين الحق، فإن الكيان الأصلي هو الأمة التي يديرها هيئات من أولي الأمر منها ولا يتسلط عليها فرد ممثلاً لأسرة أو قبيلة، أما وجود الدولة فهو أمر اضطراري عندما تتدهور أحوال الأمة ويضعف عند الأغلبية الوازع الديني ويصبح من اللازم ردع من لا يقيمون وزناً للدين أو القانون بقوة السلطان.
------------
إن من أبلغ الدلائل علي أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لم يؤسس دولة وإنما أمة أو مجتمع إسلامي بلا كيان يتسلط عليه هو الأوامر القرءانية المنظمة لتعاملاته مع أهل الكتاب ومع المنافقين، وكذلك كونه لم يوص بالأمر لأحد من بعده، ولا يجوز الاستماع إلي ما يقوله الشيعة، ولو أوصى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بالأمر لأحد من بعده لما جرؤ أحدهم علي مخالفته، ومن المعلوم أنهم لم يجرءوا علي مخالفة وصيتي أبي بكر وعمر من بعده رغم أنه لم يكن من حق أحدهما أن يوصي لأحد بالقيام بأمر الأمة من بعده، وكان علي الشيخين بالذات أن يأخذا بسنة النبي في هذا الخصوص والتي انتفع بها كلاهما، وخير ما يمكن أن يُعتذر به للصديق هو أن الأمة كانت في حالة حرب مع كل من الروم والفرس وكان لابد من تولية من يضمن للأمة وحدتها وتماسكها حتى لا تتعرض جيوش المسلمين للخطر، أما الفاروق عمر فخير ما يمكن أن يعتذر له به هو أن الناس هم الذين اضطروه لاقتراف ذلك الخطأ، فلقد كان يحتضر، وكان يخشى عندها من تبعة أي قرار قاطع.
------------
إن شعارات مثل (العودة إلى الإسلام) أو (الإسلام هو الحل) التي يرفعها البعض لن تؤدي إلا إلى إشعال نيران الفتن واستهلاك وتبديد طاقات الأمة، ذلك لأنهم يقصدون بالإسلام تلك المذاهب الضالة التي قادت المسلمين إلى ما هم عليه الآن من انحطاط وجهل وضعف واختلاف وتخلف، فالعودة إلى تلك المذاهب لا تعني إلا عودة الفتن بين المسلمين وتسلط البعض على الناس باسم الدين وصد الناس عن سبيل الله والقضاء على مستقبل الأمة وعلى ما حققته من بعض التقدم والذي لم يتحقق إلا بفضل ابتعادها قليلاً عن المذاهب، فهذا التقدم قد حدث رغم أنف المذاهب ورغم أنف سدنتها والمنتفعين بها، وهؤلاء وورثتهم سيظلون يتربصون بالتقدم ودعاته وسيتصايحون عند كل عثرة: ألم يتبين لكم كيف كنتم مخطئين؟ وسيسجدون شكراً عند كل كارثة تحيق بالأمة التي تقدسهم وترفع أقدامهم فوق أعناقها.
------------
إن من اعتقد إمكان الاستغناء عن القرءان الكريم بأي وجه من الوجوه فقد خرج حقيقة من الإسلام وإن ادعوا له الإسلام، والحق هو أن جل المذاهب المحسوبة على الإسلام قد استغنت عمليا وواقعيا عن القرءان بما لديها من مرويات وآراء أئمتهم وسدنة مذاهبهم، وهم يتباهون بأن جلّ مادة الدين مأخوذ من المرويات وغيرها من المصادر الثانوية، ولذلك فإنه لا يجوز رفع شعارات مثل (الإسلام هو الحل) أو (العودة إلي الدين)، ذلك لأنه لو عادت كل طائفة إلي ما تتصور أنه الدين لافترس بعضهم بعضا وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، ولو انتقي كل واحد من أتباع المذهب السني مثلاً (صحابياً) معيناً ليتأسى به لتناحروا جميعا ولضرب بعضهم بالسيف رقاب البعض الآخر، إن المذاهب الإسلامية لا تملك للأسف صيغة تمكنها من التعايش السلمي فيما بينها، ولقد تصارع الحنفية والشافعية صراعاً مريراً في شرق العالم الإسلامي حتى اكتسحهم المغول، كما اضطهد الحنابلة في بغداد كافة أتباع المذاهب (الفقهية) والكلامية، أما أطول حرب في التاريخ البشري فليست حرب المائة عام بين انجلترا وبين فرنسا، بل هي حرب القرون بين السنة وبين الشيعة!
------------
إن الإسلام هو دين الحق وليس بدولة، ويستطيع الفرد في دولة غربية أو غيرها أن يعتنق الإسلام وأن يترقى في مراتب الكمال الإسلامية دون أن يضطر للاصطدام مع مجتمعه ودون أن يضطر للانخراط في عصابة إجرامية استرهابية تهدد الناس في بلده ودون أن يبث الرعب فيمن حوله ودون أن يروعهم بلحية هائلة ولا بجلباب قصير ولا بنظرات نارية ولا بنقاب أسود مخيف، إن الالتزام بدين الحق يرقى بالإنسان ويجعله حييا رحيما ودودا كريما ولا يجعله كتلة مخيفة من الحقد والغل والرعب والدمار.
-------
إنه لم يكن من مقاصد الإسلام أبداً أن يعلِّم الناس كيف يحدثون عقوبة لكل خطأ أو كيف يتفننون في عقاب من أخطأ، إن الإسلام هو دين الحق وهو دين الرحمة، ولقد بيَّن الله في القرءان أنه رب العالمين وليس رب طائفة خاصة وأن كل الأمور تجري بمشيئته وأنه هو الذي جعل لكل طائفة شرعة ومنهاجاً ليستبقوا الخيرات.
-------
الرسول لم يؤسس دولة في المدينة، وموقفه مع اليهود بالذات يبين ذلك، لقد عقد معهم –ككيان مستقل- معاهدة للتعاون في الدفاع عن المدينة ضد من يهاجمها وللتعايش السلمي بمقتضى الأوامر القرءانية، وقد ظلوا كذلك، ولذلك لم يكونوا ملزمين بالرضوخ لأحكامه ولا بالانضمام إلى جيشه، ولو كانوا تابعين له لكان له أن يحكم عليهم وبينهم ولكان عليهم الرضوخ لأحكامه ولكانوا ملزمين بالخروج معه في كل موقعة، بل ظل هو مخيرا بشأنهم، قال تعالى: {....فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }المائدة42، وكذلك كان مأمورا بألا يستعين بالمنافقين، ذلك لأنهم لم يكونوا من أمة المؤمنين وإن كانوا يعيشون معهم في نفس المدينة، قال تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ }التوبة83.
لا وجود لمفهوم الدولة في الإسلام، وإنما يوجد مفهوم الأمة التي تحكم نفسها بنفسها وتدير أمورها بنفسها، ولا وجود لمفهوم الحكم بمعنى To rule وإنما يوجد مفهوم الحكم بمعنى To judge ومفهوم الحكم بمعنى الحكمة والتقدير والتقييم والتقويم وإعطاء الوصف الشرعي أو الصائب للأمور، فمن الحكم القضاء بين الناس، وإدارة أي أمر من أمور الأمة هو تكليف ومسئولية وليس وسيلة للتربح، وولي الأمر هو المدير بالمعنى الحديث، وترشحه لمنصبه كفاءته وتأهيله، وهو لا يسعى بالأصالة لأي منصب.
وهذا بالطبع لا يعني أن الإسلام يمنع وجود هذا الكيان المسمى بالدولة الآن.
-------
يجب التمييز بين المهام المنوطة بالأمة من جهة وبين المهام المطلوبة من الدولة بمفهومها الحديث، فعلى الأمة القيام بأركان الدين لتحقيق مقاصد الدين داخل كيان المجتمع دون المساس بحقوق الآخرين، واحترام حقوق الآخرين والتعايش السلمي معهم هو في الحقيقة من مقاصد الدين، والإسلام في الحقيقة هو الدين الوحيد الذي يوفر القيم والآليات اللازمة لذلك، أما الدولة فوظيفتها هي المحافظة على كيان البلد وسلامته وحفظ حقوق الإنسان المادية والمعنوية وأولها حريتهم المطلقة في الإيمان بما يشاءون دون التعدي على الآخرين.
-------
من يسمون أنفسهم بتيار الإسلام السياسي هم أجهل الناس بالإسلام وهم خوارج هذا العصر، ولكن الخوارج كانوا أشجع وأشرف منهم، ولقد كان من أكبر النكبات التي ضربت أمة الإسلام ظهور هذا التيار الذي يستغل عواطف الناس الدينية وجهلهم المخزي الفادح ليحولهم إلى دواب في قطيع يسيرهم الطامعون في التسلط الدنيوي كما يحولهم إلى وسائل إفساد وتخريب وتدمير ضد مجتمعاتهم.
-------
الإسلام هو أولا وقبل كل شيء دين، بل هو الدين الواحد الذي بدأ رسميا بإبراهيم عليه السلام وتمّ واكتمل بالرسالة المحمدية؛ أي بالقرءان الكريم، وهو دين ملزم لكافة الكيانات الإنسانية، بدءا من الفرد وانتهاء بالأمة، أما الكيان الذي يُعرف بالحكومة أو الدولة أو أي جهاز سلطوي فهو قابل للتغير من عصر إلى عصر، والإسلام لا يمنع وجود مثل هذا الجهاز، ولكنه لا يحدد له شكلا معينا، وذلك لعالمية الإسلام، وهو يلزم هذا الجهاز بالعمل وفق منظومات القيم والسنن والشريعة الإسلامية، ولا يمكن لدين عالمي أن يقيِّـد ما هو قابل للتطور، ولا أن يجمد ما هو بحكم طبيعته سيال، وإذا كان الله تعالى قد آتي دواود وسليمان وطالوت الملك فقد نفي عن الرسول كافة لوازمه، والقرءان هو الكتاب المهيمن على كل الكتب والناسخ لبعض أحكام الرسالات السابقة، فما قرره هو الأمر النهائي الملزم.
ولا يجوز الزعم بأن الرسول قد وضع نظاما للحكم (بالمعنى المعروف الآن) ولا أنه كوَّن دولة أوصى برئاستها لأحد من بعده وإلا لما بادر الناس إلى الاجتماع في السقيفة وإلا لما احتاروا في اللقب الذي يجب إطلاقه على من يقوم بأمرهم وإلا لما انتفض العرب والأعراب معلنين أنهم مسلمون ولكنهم غير ملزمين بأن يتبعوا من اختاره المسلمون في سقيفة المدينة، ولقد كانت الحروب التي سُميت من بعد بحروب الردة هي –في الحقيقة- حروب تأسيس الدولة، وكما هو واضح كانت الحرب هي الحل السريع والحاسم، ولكنها لم تكن قرارا دينيا، فلقد انقضى زمن الوحي الرسمي بختم النبوة، بل كانت اجتهادا من أبي بكر حمل الناس عليه، وقد كان من المعترضين عليه حليفه الرئيس عمر، لذلك يتحمل كلاهما مسئوليته وما شاب عملية تنفيذه من جرائم حرب معلومة، هذا مع العلم بأنه كانت هناك بعض القبائل التي ارتدت بالفعل، وحوربت لذلك.
أما ما تلا ذلك من قرارات فكانت بمثابة اجتهادات بشرية من سائر المسلمين كان فيها حق كثير ولكن كان فيها باطل أيضا، ولا يمكن أن يكون الأمر إلا هكذا، فهم لم يكونوا ملائكة ولا أنبياء معصومين، ولا يجوز تحميل الإسلام المسئولية عن كل أفعالهم، ويجب العلم هنا بأن إقامة الدولة كان على حساب الأمة بلا ريب، وبالانقلاب الأموي الإجرامي تحولت الدولة إلى كيان دموي مجنون معاد للدين الحقيقي وللأمة التي فقدت سلطانها السياسي وانشغلت بما تبقى من الدين الذي تحول إلى طقوس تعبدية لا تمسّ السلطة في شيء، وتم القذف بمن تبقى من العناصر الفعالة في حروب توسعية استيطانية، وكان ذلك هو الحل المريح للطرفين؛ تنشغل العناصر الفعالة بجهاد الكفار لتظفر بالنصر أو بالشهادة والجنة وتفوز السلطة الأموية بالثمار الدنيوية لهذا الجهاد، وتم تحريف الدين وصياغته ليجعل من الدولة كيانا عدوانيا توسعيا ليس لديه آلية للتعايش السلمي مع الآخرين، ولذلك عندما تفتتت الدولة كان الحرب والتوسع هو الآلية الوحيدة للتعايش بين الدويلات الإسلامية.
-------
في الحقيقة مفهوم الدولة بالمعنى المعاصر هو مفهوم حديث جدا، ومفهوم الدولة الآن يختلف تماما عن مفهوم الدولة العباسية مثلا، وبناء الأمة من مقاصد الدين العظمى، وهو من أعظم الأعمال التي أنجزها الرسول، بل إن مفهوم الرسول يتضمن بالضرورة بناء الأمة المؤمنة، ولا يجوز لأحد أن يزعم أن مفهوم الأمة هو نفسه مفهوم الدولة والتي من أخص خصائصها وجود سلطة مركزية وهياكل ومنظمات للحكم بالمفهوم المعلوم.
-------
لو كان من مهام الرسول إقامة دولة لنص القرءان على ذلك نصاً صريحا كما نص على الأمر بإقامة الصلاة، ولصار من مهام كل من ولد مسلما السعي لإقامة تلك الدولة كما يسعى إلى إقامة الصلاة، وهذا تكليف بالمستحيل، والحق هو أنه ثمة أوامر قرءانية واردة لجماعة المؤمنين، فجماعة المؤمنين في كل عصر ومصر ملزمة بتكوين أمة مؤمنة وليس دولة بالمفهوم السياسي، فالمسلمون الآن في أمريكا مثلا ملزمون ببناء هذه الأمة والتي تمكنهم من التعايش هناك كجسد واحد، هذا هو الإسلام العالمي وطيد الأركان!
-------
إن الإسلام هو دين الحق، وهو الدين العالمي الذي ارتضاه الله للناس كافة، وهو ملزم لكل الكيانات الإنسانية بدءا من الفرد والأسرة إلى الجماعة والأمة وكل ما يمكن أن يستجد من كيانات مثل المؤسسات التعليمية والإنتاجية، ولكن الإسلام ليس بدولة، وليس من سماته ولا من مقاصده أن يكون سلاحاً في يد شخص أو مجموعة لتتسلط به علي الآخرين، ولقد تكفَّل الله عز وجل بحفظ رسالته ولم يستحفظ عليها أحداً ولم يترك أدنى فرصة لفئة لتتكسب به ولا لتتسلط علي الناس باسمه ولا لتتطفل علي العلاقة بين الإنسان وبين ربه، ولذلك يستطيع الآن أي إنسان في أي مكان أن يعتنق الإسلام كما يعتنق أي دين دون أن يكون ملزماً له بالتصادم مع الدولة التي ينتمي إليها، وهذا يعني أنه ليس من حق أي إنسان أن يتمرد أو أن يخرج علي قومه أو بني وطنه شاهراً سيفه بحجة أنه يعرف الإسلام الصحيح أو بأنه يجد نفسه ملزماً بتطبيقه، وليس له بالطبع أن يدعي أنه يمتلك صكوك غفران أو مفاتيح الجنة.
-------
يرفع البعض شعار أن الإسلام دين ودولة، وهذا الشعار باطل، ذلك لأنه يتناقض مع منظومة خصائص وسمات الإسلام؛ فهو يتناقض بصفة خاصة مع عالمية الإسلام وطابعه السلمي، والحق هو أن الإسلام دين، بل هو الدين الكامل، فالإسلام بمعناه الرسمي الاصطلاحي هو بالنسبة إلى الأديان الأخرى خاتمها وأكملها، وهو في الحقيقة أيضاً الصورة النهائية الكاملة التي تطور ووصل إليها الدين الذي ألزمت به الإنسانية منذ ظهورها، والحق هو أن من مقاصد الإسلام العظمى إعداد وبناء الأمة الخيرة الفائقة، وكل فرد مسلم ملزم بواجبات معلومة تجاه تلك الأمة، ولذلك فكل جماعة إسلامية سواء أكانت أكثرية أم أقلية في بلدٍ ما ملزمة بتكوين أمة إسلامية بكل ما يعنيه ذلك من معنى، هذا هو المطلوب من دين يتسم بالعالمية والصلاحية لكل زمان ومكان، والأمة تكون ملزمة من بعد بالقيام بأركان الدين الملزمة لتلك الأمة وعلي رأسها الحفاظ علي وحدة الأمة وتقوية بنيانها، وتلك الأمة ملزمة أيضا بتحقيق مقاصد الدين العظمى والالتزام بما تمليه عليها هذه المقاصد من التزامات وواجبات تجاه من يشاركونهم في نفس الوطن، وبكلمات أخرى هي ملزمة بالقيام بباقي أركان الدين الملزمة للأمة، أما الدولة فهي منتج ثانوي ويستلزم وجودَها تدهورُ الأمة واحتياجها إلي سلطة دنيوية لإدارة أمورها، فالأمة القوية الفتية تسير على النهج النبوي دون أدنى حاجة إلى مؤسسات تسلطية، ويتولي كل أمر من أمرها من تلقوا التأهيل اللازم والمرتضى طبقا لظروف العصر والمصر، إنه عند عدم وجود نصاب يعتد به من المؤمنين المخلصين ومن أولي الأمر الحقيقيين بحيث لا تستطيع الأمة تحقيق مقاصد الدين أو الرقي لمستوى مثله يصبح وجود السلطة أو الدولة أمراً لازماً، أما الشكل العام لتلك الدولة فهو متروك لظروف كل عصر ودرجة تطور وخصائص كل مصر.
-------
إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أُرسل رحمة للعالمين حاملاً إليهم الرسالة الخاتمة التي بها اكتمل الدين الملزم للناس أجمعين إلى يوم الدين، ولم يرسل ليؤسس دولة أو ليقيم ما هو معرف الآن بسلطة سياسية، وهو لم يكن حاكما على قومه بالمعنى الذي اصطلح عليه حديثا، فهذا المعنى منفي عنه نفياً باتا بآيات محكمة، بل إن الحكم في القرءان هو حكم بين الناس وليس عليهم، فالحكم في الإسلام ليس (To rule) وإنما هو (To judge) و(To evaluate) و(To give the legitimate description)، و(To act wisely)، و(To act properly)،  وإنما كان الرسول ولي كافة أمورهم وحكما بينهم، (He was qualified and divinely authorized to take decisions and to judge between them)، أما المؤمنون فكانوا ملزمين بطاعته كنبي مرسل وليس كحاكم متسلط، ولذلك لم يعين لهم حاكما أو رئيسا من بعده، ولقد أشهدهم على أنه أدى الرسالة وبلَّغ الأمانة ولم يشهدهم على أنه أسس دولة، أما النبوة فهي لا تورث، وإنما أُرسل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ ليحقق مقاصد الدين العظمي ومنها إعداد الأمة الخيرة الصالحة الفائقة التي ليست بحاجة إلي سلطة قهرية لتمارس مهامها المنوطة بها في الداخل والخارج.
وكان ضمان تماسك الأمة هو كونهم ملزمين بالطاعة المطلقة للأوامر القرءانية والضمير الجمعي المؤمن الذي يدفعهم إلي أن يتجنبوا مخالفة القانون الذي هو جماع أحكام الشريعة والذي يجعلهم يجلون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويلتزمون اختيارياً بطاعته ويحكِّمونه فيما يشجر فيما بينهم ويسعون إليه طلباً لتطهيرهم بإنزال العقاب اللازم بهم إذا ما أخطئوا بمخالفة القانون، وكان هو لا يمارس من أعمال السيادة إلا التأكد من إقرارهم بالشهادة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ويترك كل كيان يمارس سلطانه علي مكوناته، ولقد أقر كل شيخ قبيلة او أمير على ما كان له إذا ما أعلن إسلامه، وهو لم يحاول أبدا أن يضم أي كيان أعلن إسلامه إليه بقوة السلاح مثلما سيفعل كل من أتي من بعده، فهو لم يكن ملكا يريد توسيع نطاق ممتلكاته وسيطرته، أما الدولة فإنما بدأت في التكون علي يد الصديق وكان تكونها علي حساب كيان الأمة الخيرة الفائقة، حتى إذا ما أخذت الدولة شكلها التقليدي علي يد معاوية الأموي الذي خرج على الإمام الشرعي للأمة كانت الأمة الخيرة الفائقة علي وشك الانقراض إلي أن أجهز عليها اللعين يزيد، وتحول الأمر بذلك إلى ملك عضوض ثم إلى تسلط دموي إجرامي لا يسمح بأدنى معارضة للمتسلط على الأمر، وأصبحت الوظيفة المنوطة بأجهزة الإعلام من الشعراء مدح المتسلط وهجاء خصومه، وكان هذا هو الشرط اللازم ليغترفوا من أموال الناس التي نهبها المتسلط ما يشتهون.
وكما قلنا دائما إن بناء الدولة يكون عادة على حساب الأمة، وهذا ما تنبه له أهل الغرب في العصر الحديث، وهم يحاولون –وهذا سرّ نجاحهم، تعظيم قدرات الأمة على حساب الدولة، فهم يحاولون الوصول إلى الوضع الذي جعله الإسلام الأمر الطبيعي منذ البداية: وجود الأمة الخيرة الموحدة التي لا يتسلط عليها أحد، وإنما تحكم نفسها بنفسها عن طريق أولي أمر منها، فالسلطة هي سلطة التأهل والنجاح وفقا للإمكانات فقط، وليست سلطة مجانية مستندة إلى أية أسباب غير موضوعية، إن تقدم البشرية مرهون بمدى قدرتها على تقليم أظافر الكيان المسمى بالدولة والحد من تدخله في شئون الأفراد، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا ببناء الأمة القوية والتحديد الدقيق لمهام السلطة التنفيذية.
ومن المعلوم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يؤسس دولة بالمفهوم المعلوم ولا وفقاً لأي مفهوم، ولم يكن ذلك من مهامه أبداً، وإنما علَّم وربَّي أمة تحكم نفسها بنفسها بواسطة أولي أمر منها، أما ما حدث من بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ فهو أن أبا بكر الصديق قد أدرك أنه لابد من تأسيس ما هو أشبه بالدولة للأمة التي تركها الرسول، وكان لزاماً عليه أن يقاتل دفاعاً عن مركز تلك الدولة ولتأسيسها، لذلك فلقد قاتل كل من شكل تهديداً فعلياً لمقاصده وإن لم يرتدّ، فهو قد رأى وجوب خضوع كل العرب لسلطة سياسية مركزية واحدة، وهذا كان رأيا ارتآه لم يفعله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله سَلَّمَ، فلقد كان الرسول يترك حال كل كيان أسلم على ما كان عليه، ولم يغير الأوضاع السياسية لتلك الكيانات، وهو كحامل للرسالة الخاتمة الملزمة للناس إلى يوم الدين لم يكن مكلفاً بإنشاء كيان وقتي لابد أن يتجاوزه العصر من بعد.
ولقد تفوق أبو بكر على باقي السابقين الأولين بالإدراك السريع لما يلزم الأمة الوليدة وكذلك لضرورة الالتزام بشيء من الواقعية في معالجة الأمور، وكان ذلك اجتهاداً منه، وسرعان ما أدركوا بالفعل مراميه وعاينوا ثمار قراره الاستراتيجي الصائب وأقروا له بالفعل بتفوقه عليهم، ولكن كان لابد لمثل هذا القرار كأي قرار بشري من آثاره الجانبية، وكان من ذلك الجرائم التي اقترفها بعض قادة الجيوش، ومنها جريمة قتل مالك بن نويرة بطريقة بشعة وسبي امرأته ودخول القائد بها قبل انقضاء عدتها وجرائم قتل بعض الأسرى وإلقاء بعضهم من شاهق الجبال وحرقهم وتجاوز كل حد في عقاب الناس، ولا يجوز تحميل الإسلام وزر تلك الجرائم وإنما يتحملها من أمر بها أو قام بها ومن لم يتخذ ما يلزم لعقاب مقترفيها، والمسلم ليس بملزم بالدفاع عن اقتراف جرائم كهذه، إن مثل تلك الأعمال غير مبررة من حيث مبادئ الإسلام وقيمه ولكنها كانت لازمة لبث الرعب في قلوب الأعراب الشرسين المتمردين وإنشاء كيان كالدولة للأمة والحفاظ عليه، أما عبيد الأسلاف –الذين قدسوا السلف وحولوا اجتهادات البشر إلى دين واجب الاتباع- فهم أضل من الأنعام وسيتحملون وزر صد الناس عن الإسلام.
-------
توجد أوامر قرءانية محكمة وملزمة لأمة المؤمنين بقتال المعتدين الذين اضطهدوهم في دينهم وأخرجوهم من ديارهم، هذه الأوامر لم تتولد تبعا للظروف ولم يُضطر الله تعالى لفرضها!! بل هي أوامر موجودة في القرءان من قبل أن يتلقاه النبي أصلا، ولقد كان الله تعالى هو الذي قرر حسم أمر الذين كفروا بأيدي من آمن وليس بآية كونية، ولا توجد أية أوامر في القرءان لتكوين دولة بل الأوامر متعلقة بأمة المؤمنين!
-------
من يمكن أن يطبق دين الحق هم العالمون به، وهم قلة لا يمكن أن يتولوا أمر دولة لكون أكثر الناس للحق كارهين ويميلون إلى الإخلاد إلى الأرض، والمتميزون في أي مجال هم دائماً قلة، هذا قانون وجودي، فالعلماء الطبيعيون في كل تخصص والفلاسفة والمهندسون البارعون والقادة المتميزون والشعراء المجيدون كانوا دائما قلة محدودة جدا، فهل يتعين إلغاء كافة أوجه النشاط الإنساني لفشل الكثرة في الإتيان بمثلها أو التجاوب معها في عصرها؟ مصطلح "السابقون" يحمل في طياته معنى غربة هؤلاء في عصورهم وأوطانهم، ومنحنى جاوس المعياري (The Normal Gaussian Distribution)  يوضح هذه الحقيقية، فالمتميزون في أي شيء هم قلة على يمين المنحنى، ويقل عددهم كلما ابتعدنا عن المتوسط العام!
ولكن عندما يريد الله تعالى إحداث طفرات تقدمية بإخراج أمة للناس يجعل جزءا كافيا من العامة يتبع هؤلاء المتميزين فيقودونه إلى تحقيق هذه الطفرة.
-------
ولقد تمت كلمة الله تعالى واكتمل الدين، ولكن سيبقى الناس في حاجة ماسة لمن يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فأكثرهم لا يستطيعون ذلك من تلقاء أنفسهم، وكل من أسلم من بعد فتح مكة كان لابد من تعليمهم وتزكيتهم، فكان أصلح السابقين الأولين لذلك هو الإمام علي الذي نشأ مسلما وتربى في بيت النبوة ولم يكن من قبل في ضلال مبين كغيره!! قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }الجمعة2
-------
مما لا شك فيه أبداً أن الإمام علي هو سابق هذه الأمة، ولقد كان منوطا به أن يقوم بمهام الرسول من بعده، وهي تعليم الناس وتزكيتهم وتلاوة آيات الكتاب عليهم، ولكنهم أبوا عليه هذه المكانة.
-------
يجب العلم بأن وحدة الدين هي الركن الأعظم الملزم للأمة، وأن ما يناقض هذا الركن؛ وهو تفريق الدين، هو من كبائر الإثم، يجب أن تتمسك الأمة بكل ما يدعم وحدة الدين وما يدعم وحدتها.
-------
لقد كان من الواجب على أهل القرن الأول ممن لم يكتمل تعليمهم وتزكيتهم أن يتتلمذوا على الإمام علي، فلقد كان وريث الرسول فيما يتعلق بالمهام الآتية: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} البقرة151، هذا ما أعلنه الرسول عليهم، ولكنهم أبوا هذه المكانة والمهام له واستكبروا فكان ما كان من الفتن التي أدت إلى تفريق الدين.
فلقد كان منوطاً بالإمام عليّ أن يتولى أمور المؤمنين الدينية (التعليم والتزكية) حيث أن أكثرهم (مائة ألف أو يزيدون) لم يؤمنوا إلا بعد فتح مكة ولم يتعلموا من الرسول شيئا يعتد به، وكان مطلوبا استكمال تعليمهم وتربيتهم وتزكيتهم على يديه، ولقد أخذ الرسول عليهم تعهدا بذلك على رءوس الأشهاد كما هو معلوم، وكان إعلان أن الإمام عليا هو سابق الأمة وولي كل مؤمن بمثابة إعلان النتيجة النهائية من المعلم على تلاميذه قبيل رحيله عنهم، ولو كان المراد حكما بالمعنى السياسي لأخذ الرسول له البيعة العامة على ذلك، والرسول لم يؤسس دولة ليولي عليها حاكما بالمعنى القديم أو بالمعنى الحدث (Governor or ruler).
-------
بالطبع كان الرسول يودّ لو عرفوا للإمام عليّ قدره، ولقد همّ في لحظات معينة أن يوليه عليهم بالمعنى العام، ولكنه كان يعلم جيدا أن ذلك ليس من مهامه، وكان الإمام عليّ على علم بذلك، ولقد حذرهم الرسول من فتن كقطع الليل المظلم، ولكنه كان يعلم أن التأليف بين قلوبهم كان نتيجة تدخل إلهي خاص لإنجاح الدعوة، وأنه سينقضي بانتقاله، ولقد حذرهم في خطبة الوداع من أن يرجعوا من بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض وأن يفتتنوا بالدنيا وأن يتنافسوها.
والقول بأن أحد السابقين الأولين من المهاجرين أو الأنصار تلقى قدرا هائلا من التزكية النبوية هي شهادة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بأنه قام بما كلفه الله تعالى به خير القيام: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }الجمعة2، فقد كان منوطا بالرسول تعليم وتزكية (التربية الروحانية بلغة العصر الحديث) من اتبعه، فهم لم يكونوا خلانه وأصدقاءه كما يزعم عبيد السلف وأهل اللاسنة وإنما كانوا تلامذته، وكان هو الشهيد عليهم المكلف بتقويمهم تقويما عادلا، والشهيد لا يتخذ ممن سيؤدي الشهادة عنهم خلانا أو ندماء، ولكن التزكية هي تفاعل بين كيانين، فلم يستو كل أهل القرن الأول في المرتبة، وكان سابقهم بلا ريب هو الإمام عليّ لأمور واعتبارات كثيرة، ولذلك أوصى له الرسول بولاية الأمر الديني على رؤوس الأشهاد، وهذا يتضمن ولاية أمر الأمة من حيث أنها أمة كما أسسها الرسول وليس كدولة، ولكن أكابرهم سنا –لرسوخ قيم الجاهلية وعدم زوالها بالكلية- أبوا ذلك، ولذلك كان الحق دائماً مع الإمام علي، أما السيدة فاطمة فهي بضعة الرسول ومعه في درجته في الجنة، وبالطبع تشبعت تشبعاً تاما بالتزكية النبوية، ولذلك كان الحق معها ومع الإمام علي في كل نزاع نشأ بينهما وبين الآخرين.
-------
الكتاب الذي كان ينوي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أن يكتبه كان يتضمن ما كانوا يعرفونه من قبل، ولكن أريد به أن تكون وثيقة مكتوبة ملزمة لهم، وهو ما أكده في خطبة حجة الوداع وبعدها في الغدير، أن يتمسكوا بكتاب الله وحده فلا يتخذوا كتبا في الدين معه، وأن يتخذوا الإمام عليَّا وليا في أمور الدين ووليا على الأمة كما أسسها الرسول، وقد كان منوطاً بالإمام عليّ أن يتولى أمورهم الدينية (التعليم والتزكية) حيث أن أكثرهم (مائة ألف أو يزيدون) لم يؤمنوا إلا بعد فتح مكة ولم يتعلموا من الرسول شيئا يعتد به، وكان مطلوبا استكمال تعليمهم وتربيتهم وتزكيتهم على يديه، ولقد أخذ الرسول عليهم تعهدا بذلك على رؤوس الأشهاد كما هو معلوم، وكان ذلك مطلوبا أيضا من كبارهم ممن لم يستكملوا تزكيتهم، وهو ما استنكفوا أن يلتزموا به، ذلك لأن تقاليد الجاهلية كانت راسخة في نفوسهم ولم يتم إزالتها بالكلية، فلم يكن يتصور أحدهم وهو شيخ كبير أن يتتلمذ على الإمام عليّ وكان في الثلاثينيات من عمره، ولو كتبه الرسول ولم يلتزموا به لكان في ذلك هلاكهم المحقق، ولقد صرف النظر عن الكتابة رحمة بهم، ولأنه لم يكن مأمورا بها، ولو كان مأمورا لما تراجع عن أمره، وهكذا تركهم ليواجهوا أمور الحياة بأنفسهم، فهو لم يكن عليهم جبارا ولا مسيطرا ولا حفيظا ولا وكيلا وإنما معلما ومزكيا ومبشرا ومنذرا وشهيدا، وبانتقاله أصبحت مهمته هي الشهادة عليهم؛ الشهادة الصادقة بالطبع، ولذلك لم يتخذ منهم خليلا، ولقد أعلن ذلك على رؤوس الأشهاد.
أما الولاية على الأمة فهي الولاية على الكيان الذي أسسه الرسول والذي يجعل الأمة تحكم نفسها بنفسها ويسمح لكل كيان بالبقاء على ما كان عليه أو يرتضيه لنفسه في شئونه الخاصة؛ أي يحتفظ باستقلاله السياسي بالمعنى الحديث.
-------
في الحقيقة لا سبيل إلى مناطحة الحقائق ولا إلى إرغام الأمور على ما ليس من ديدنها، ونؤكد من جديد أن من مهام الرسول الرئيسة تحقيق مقاصد الدين ومنها إعداد الإنسان الرباني الصالح المفلح بالتعليم والتزكية وإعداد الأمة الخيرة المنوط بها القيام بمهام الرسل بعد ختم النبوة، هذا بالإضافة إلى مهامه المعلومة كرسول نبي يحمل رسالة إلى قومه خاصة وإلى العالمين كافة، وعندما أعلن أن الإمام عليَّا هو سابق الأمة والأولى بالولاية كان يعلن على من اتبعه وآمن به (وليس خلانه ولا أصدقاءه) نتيجة الاختبار العام عند تأهبه للرحيل تاركا إياهم يعملون بما علمهم إياه، وعندما وقف يخطب في حجة الوداع كان يخاطب الأمة التي رباها وأعدها ويشهدهم على أنه أدى مهامه، ويعلمهم أنه قد أصبح فقط شهيدا عليهم حتى لا يدعي أحد منهم أنه كان صديقه أو خليله أو الأثير عنده أو المقرب لديه، لقد قام بكل ما كان يجب عليه، ونجح في ذلك نجاحا تاما، ولكنه لن يكون مسئولا عن خروجهم على تعاليم الدين الذي أنذر به، لذلك أنذر وأرعد وهدد وتوعد، وقال بكل قوة: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"، والتاريخ يشهد أن بعضهم ضرب رقاب بعض!! ولكن جاء سدنة المذاهب فألزموا الناس بتوثين طوائف منهم!!! وانفرد السلفية بتوثين أهل البغي والداعين إلى النار!!!

*******


هناك تعليق واحد: