السبت، 10 يناير 2015

الصراط المستقيم

الصراط المستقيم

إن الصراط المستقيم بالنسبة للإنسان بكل كِياناته هو ما يناظر ما يسمَّى في العالم المادي (Geodesic line) أي المسار الذي يجب أن تسلكه الأجسام المادية في الزمكان تحت تأثير الكتل المادية الكبرى، ففي النظام الشمسي تلعب الشمس الدور الأكبر في تحديد تلك المسارات في مناطق نفوذها المحيطة بها، وعلى الكتلِ المادية الأصغر منها أن تلتزم بتلك المسارات، ولو فُرِض أن لدى كوكب الأرض مثلا بكل ما عليه ككِيانٍ واحد الحريةَ والاختيار لكان عليه أن يسلك هذا المسار المقرر والمقدر لصالح  بقائه وبقاء كل ما ارتبط به مصيرُه.
وبالنسبة للإنسان ككيان مادي لا بد له من سلوكٍ معين للإبقاء على جسده والحفاظ عليه، ولابد لكيانه الجوهري الباطني من مسارٍ يؤدي إلى الحفاظ عليه وإلى تحققه بكماله المنشود، وتلك المسارات إنما حددتها وعينتها الشمسُ الحقيقية لعالم الكائنات المخيرة؛ ألا وهي شمسُ الألوهية، ولكل إنسان  مسارُه الخاصُّ به، فكل تلك المسارات قد قدرها وقررها الله سبحانه، فهو الذي قدر المسارَ الكلي العام الذي يتفرع إلى مسارات فرعية بقدر عدد بني الإنسان، وعلى الإنسان أن يسلك هذا الطريق بمحض اختياره، ولكن لما كان الإنسان ذا إرادة واختيار فإن له أيضا أن يتنكبه، ولكن ذلك سيكون على حساب مصيره ومستقبله، ولابد للإنسان من  معرفة بهذا الطريق، وتلك الحاجة مستمرة ودائمة، ذلك لأنه لابد في كل لحظة وموقف يتعرض له الإنسان من اختيارٍ أمثل يجب عليه معرفته والتمسك به، لذلك أُمر بطلب الهداية إلى الصراط المستقيم ممن قدَّره وممن له الإحاطة التامة به.
والصراط المستقيم هو عين الاعتصام بالله وبحبله المتين، ولكل إنسان من حيث أنه مريد ومختار صراطٌ عام، ولكن هذا الصراط قد يتفرع إلى فروع عديدة في نقاط معينة وكلها ستؤدي به إلى ما يريد ولن تجعله ينحرف عن الصراط العام، وتلك الفروع هي الأمور الشكلية أو ظاهريات العبادة، فكلها تمثل حلولا ممكنة لنفس المسالة لتحقيق المراد من النتائج.
إن الصراط المستقيم بريء من طرق المغضوب عليهم والضالين، والمغضوب عليهم هم من جعلوا الدين طقوساً ظاهرية وشعائر ومدوَّنات قانونية وشبهوا ربهم بخلقه واتبعوا سنن اليهود وأعرضوا عن كل أمرٍ جوهري لحساب ما هو سطحي وعرضي، وهم أيضا من انشغلوا تماما بأمور الدنيا فجعلوها أكبر همهم ومبلغ علمهم، أما الضالون فهم من أشركوا بربهم وأعرضوا عن الحق وتنكبوا طريقه واتبعوا سنن النصارى وقدَّسوا مشايخهم وأسلافهم وأهملوا أمور الدنيا وركزوا على أداء الشعائر والنوافل بهدف إزكاء حاسة الخيال وازدروا السنن الكونية.
إن الصراط المستقيم هو سنةُ الرسول التي مارسها بالفعل وهي المؤدية إلى تزكية النفوس وتعليمها وإلى بناء الأمة الخيرة الداعيةٍ إلى الله تعالى الآمرةِ بالمعروف الناهيةِ عن المنكر المجاهدةِ في سبيل الله والمستضعفين في الأرض المدافعةِ عن الحق القائمةِ بالعدل والقسط المقدسةِ لحقوق الإنسان والمحافظةِ على كرامته والتي لا يتخذ أفرادها بعضهم بعضا أرباباً من دون الله تعالى، إن من يساهم في أمر كهذا سيظل يجني إلى يوم الدين ثمارَ ما قدم من عمل وثمارَ أعمال من تسبب في هدايتهم بسعيه وجهاده، وذلك أعظم بكثير ممن انشغلَ بأداءِ النوافل وقصر في أداء واجبه نحو أمته، إن الانشغالَ عن تلك الواجبات بأداء الشعائر والنوافل إنما ينطلق من تصور خاطئ عن الإله، فهلا سأل أحدهم نفسه لماذا خلق الله تعالى الناس في احتياج إلى بعضهم البعض؟ ولماذا أجرى أمورَ الكون وفق قوانين وسنن لا تبديل لها ولا تحويل؟ ألا يظن أولئك أن الله سبحانه هو رب الجميع وأن إطعام يتيمٍ أو مسكين أو هرةٍ صغيرة أفضل عنده من أداء نافلة لم يلزمهم بها، لقد أخبرهم في كتابه بما يرضيه من أعمال وحثهم على فعلها، فكيف يظنون أنهم أعلم منه بما يرضيه وكيف يشككون في السبل التي أوضحها للتقرب إليه؟
إن النجاةَ في الآخرة والفوز بالسعادة فيها ليس مرتباً بالضرورة على طول التنسك والتبتل والرهبنة ولكنه منوط بالاستجابة للأوامر الإلهية الواردة في الكتاب العزيز والتي جسَّدها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بسيرته وسلوكه، فالإسلام ليس دين المنقطعين في المغارات المنعزلين عن الدنيا ولكنه دين من يخوض غمار الحياة ويجاهد لتكون كلمة الله هي العليا ويقوم بأداء حقوق التجليات الإلهية في هذا العالم.
إن حاجة الإنسان إلى معرفة الصراط المستقيم لا تنتهى أبدا، والصراط المستقيم هو الأمر الأمثل بالنظر إلى مقاصد الدين العظمى بالنسبة إلى إنسانٍ ما فى لحظة ما؛ فهو الأمر المفضل والأكثرُ فعالية لإعداد الإنسان الرباني الفائق الصالح المفلح أى للوصول بالإنسان إلى كماله المنشود فى تلك اللحظة، وبمداومة الإنسان على طلب الهداية إلى الصراط المستقيم سيجد نفسه مبرمجا بحيث يهتدي دائما إليه، وآية ذلك ألا يندم على قول أو فعل أو سلوك صدر عنه، بل يجد فى نفسه السكينة والطمأنينة بعد هذا الصدور.
والاعتصام بالله هو عين الصراط المستقيم وحقيقته، قال تعالي: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(101)} (آل عمران)، ولكي يتم ذلك لا بد للإنسان أن يتزود بالعلم اللازم وهو العلم بالأسماء الحسنى ومقتضياتها، وليس ذلك بالأمر الشاق لمن عقد العزم على أن يعتصم بكل حقٍّ ظهر له وثبت عنده بالبرهان المبين ولمن طلب الحق حتى يعتصم به، فالداعي قائلا: (اهدنا الصراط المستقيم) كأنه يقول اهدني إليك حتى أعتصم بك واكتفى بك عمن سواك، والاعتصام بكتاب الله الذي هو حبل الله هو عين الاعتصام بالله.
قال تعالى:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} الأنعام
وقد زعم بعض المجتهدين الجدد أن الصراط المستقيم هو الوصايا الواردة في هذه الآيات وجعلها عشرا بفرض أن اتباع الصراط المستقيم هو الوصية العاشرة، فصفق له كل ضال مفتون أو جاهلٍ مسكين، ذلك لأنه جعل للمسلمين وصايا عشر كما كان لليهود وصايا عشر، هذا رغم أن الأمر باتباع الصراط المستقيم ورد كأمر واضح وصريح وليس كوصية، ورغم أن ما قالوا إنه وصايا هي بالأصالة الأمور التي حرمها الله تعالى على الناس ثم وصَّى بذلك، ثم قال هؤلاء المجتهدون إن هذه الوصايا هي الصراط المستقيم دون أن يدركوا التناقض في كلامهم، فبذلك تكون الوصايا تسعا وليس عشرا!!
والصراط المستقيم هو بالطبع أمر أعم من الأمور التسع الواردةِ هنا، وقد قال الله تعالى في نفس السورة:
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) الأنعام
فالصراط المستقيم هو طبقا للقرءان الدين كله، والإسلام كله، وهو الدين القيم، وهو ملة إبراهيم، وهو صراط من أنعم الله عليهم، وهو الذي يهدي الله تعالى إليه من يشاء، وهو الطريق الذي يهتدي إليه من يعتصم بالله، ففي كل موقف يجد الإنسان نفسه فيه وعندما يكون أمامه بعض البدائل هناك دائما الاختيار الأمثل، هذا الاختيار هو الصراط المستقيم الذي يهتدي إليه كل من كان على صلة وثيقة بربه وكل من كان حريصا على طلب الاهتداء إليه، بينما يحاول الشيطان أن يضله عنه، فالصراط المستقيم هو جماع الأوامر الإلهية كلها، وهو أيضا العمل بمقتضى هذه الأوامر، وكل من تمسك بالقرءان الكريم هو على صراط مستقيم، قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم}[الزخرف:43].

وكل حياة الإنسان وسعيه إلى ربه هي صراطه، فالإنسان التقي الصالح تكون حياته تجسيدا وتمثيلا لصراط مستقيم هو الطريق الأمثل إلى ربه، وهو الطريق إلى تحقق هذا الإنسان بكماله المنشود وتحقيقه المقصد من وجوده. 

هناك تعليق واحد: