سورة فصِّلت 3-5
كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قرءانا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا
وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا
قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ
وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
الآيات تبين أن القرءان هو كتاب
مفصَّل، ولكنها تومئ إلى أن المقصودين بالتفصيل، المرادين لإدراكه، هم من يعلمون،
وهي بذلك تشير إلى أن من يقول بخلاف ذلك هم من لا يعلمون، فطوبى لمن جعله الرحمن
عليما بتفصيل القرءان.
وفي ذلك أيضًا حث على أن يكون
الإنسان حريصًا على طلب العلم.
والآية بذلك تجعل من تعليم الناس
مقصدًا من مقاصد تفصيل كتاب الله، كما تجعل العلم ركنًا من أركان منظومة القيم
الإسلامية.
ووصف القرءان بأنه عربي يعني أنه
بلسان عربي، كما فَصَّلت ذلك آيات أخرى، فهو قرءان عندما يُقرأ ويُتلى باللسان
العربي، وليس بأي لسانٍ آخر، فما يسمونه بترجمة للقرءان ليست قرءانا، وإنما هي
ترجمة لما فقهه المترجم من معاني القرءان وفق مذهبه، وفي حدود إمكاناته.
وفي ذلك بيان بالمسؤولية الجسيمة
الملقاة على عاتق من كانت العربية هي لسانه الأم، فالسنَّة في مثل هذه الأحوال
مضاعفة التبعات؛ مضاعفة الثواب ومضاعفة العقاب.
فكل عربي اللسان يحمل بالضرورة
رسالة القرءان، وهو مأمور بتبليغها للآخرين.
كما أن كلمة عربي تشير إلى كماله،
وإلى انتفاء العجمة فيه، والعجمة غير صفة التشابه التي اتصفت بها بعض الآيات،
فالآية المتشابهة ذات ألفاظ عربية محكمة، ولكنها تتحدث عن أمور غيبية فوق مستوى
حواس وملكات الإنسان في عالم الشهادة.
فالقرءان كِتَابٌ فُصِّلَتْ
آَيَاتُهُ قرءانا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وهو مفصَّل على علم، ولما كان
جلّ المتصدرين في أمور الدين والمتكسبين به قد أجمعوا على أن القرءان مجمل يحتاج
إلى تفصيل فقد أظهروا مدى كفرهم بهذا التأكيد الإلهي وإلحادهم في آياته أو أثبتوا
أنهم يجهلون ولا يعلمون، لذلك أعرض أكثرهم وأعرض معهم من اتخذهم أئمة وحججا على
كتاب الله تعالى، ولم يكتف هؤلاء بزعمهم بل جعلوا، متذرعين به، من المصادر
الثانوية قاضية وحاكمة على كتاب الله.
والتأكيد بأن القرءان كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ، يعني أن كل مجملٍ فيه مفصًّل به، فالآية الواردة مجملة في
موضع يوجد تفصيل لها أو أكثر من تفصيل في مواضع أخرى، والمنهج القرءاني القويم هو
الذي يأخذ ذلك في الاعتبار.
مثال:
قال تعالى:
هذه الآية مجملة محكمة فيما يتعلق
بالأسماء الحسنى، أما تفصيل ذلك فقد ورد موزعًا على العديد من آيات القرءان، وفي
أدعية المصطفين الأخيار التي ذكرها القرءان.
***
"الأكنة" هي جمع كنان،
وهو الغطاء للشيء.
و"الوَقر" ثقل السمع،
وهو الصمم، مأخوذ من الوِقر، وهو الحِمل لأنه يثقل الدَّابة عن التحرك، فأطلقوه
على عدم استجابة أجهزتهم السمعية لما يُتلى عليهم.
و"الحجاب" هو الساتر
للمرئيّ من حائط أو أي شيء آخر، مادي أو معنوي.
وكفار قريش يتفننون في وصف ما
يجعلهم يكفرون بالرسالة، فقلوبهم لا تعي ولا تدرك ولا تفقه، فكل ملكاتها معطلة،
وأجهزتهم السمعية لا تعمل، ويوجد حجاب بينهم وبين الرسول فلا يرونه كرسول.
وأقوالهم هي أقوال الذين كفروا من
قبلهم، فهي نفس الأقوال يكررونها قرنًا من بعد قرن، وحق عليهم القول {أَتَوَاصَوْا
بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُون} [الذاريات:53]
وهم في مقابل قوله تعالى {كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قرءانا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُون}، قالوا {قُلُوبُنَا
فِي أكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إليهِ}.
وقد برروا أنهم لاَ يَسْمَعُون
ولا يفقهون ولا يرون بقولهم "قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا
إِلَيْهِ، وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ".
والحق أن السمع المنفي عنه هو
السمع القلبي المتمثل في الإدراك والوعي والفقه والفهم، ونفيه عنهم يجعلهم في
مرتبة أدنى من مرتبة الأنعام.
لقد تفنن الكافرون في وصف حالتهم
بالنسبة للرسالة، وما وصف به الكافرون بالرسالة أنفسَهم هو الحالة التي أوصلوا
أنفسهم إليها، وهي الحالة التي عُذبوا بها في الدنيا، وسيُعذبون بها في الآخرة.
وفي كل ذلك إشارة إلى ما يجب على
المؤمنين فعله للانتفاع إلى المدى الأقصى بالرسالة، فعليهم تزكية ملكاتهم، وخاصة
القلبية، وتوطين أنفسهم على إعمالها في مجالاتها الحقيقية، وهي آيات الله الكونية
والكتابية، وعليهم الحرص على طلب العلم والانتفاع به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق